أعود اليكم اليوم بجديد انطباعاتي المختصرة عن المحطات الإبداعية الكبرى للشاعر والروائي الموريتاني المؤسس للحداثة الشعرية والروائية، أحمد ولد عبد القادر أكمل الله له صحته وعافيته، مع جزيل الشكر على ما أنعم عليه به من شفاء، نستزيده من كرم الله وفضله.
المحطة الثالثة،
محطة النزعة الوطنية النضالية،
وأجزم بأن هذه المحطة كانت مؤشرا على تطور نوعي ذاتي في اعتمال تجربة الشاعر، حيث أنه يعلن عادة عن تطور تجربته عبر نص مفصلي، وأعتقد ان المحطة النضالية في موضوعها والتحديثية في فنياتها افتتحت من خلال نصين عكسا النفس الجديد للشاعر، وهما:
فنيا:
قصيدة ليل ونهار في متحف التاريخ:
الليل في غلوائه
والنجم في لألائه
والبوم في جنح الدجى
تنساب عبر ندائه
موجات لحن عاثر
مستأنسا بدعائه.
في ذلك الجو الغريب
بأرضه وسمائه
تتجاوب الأصداء حو
ل قرية السهل الكئيب
والليل يمضي ساكنا
في موكب الصمت الرهيب
سامرته في مرجه
وسألته لما يجيب...
فقد عرفت القصيدة تنويعا أوعدولا في الروي شكليا، الى جانب ميزاتها الفنية الجديدة على الشعر الموريتاني عموما، وعلى شعر أحمد. وذائقة متلقي شعره، وقد كانت هذه القصيدة بالذات قنطرة عبور نحو الحداثة الأدبية الفنية بصورة لا رجعة فيها لدى الشاعر، في السباحة الشعرية. فكان ما بعدها مختلفا فنيا عما قبلها بصورة عميقة.
موضوعا:
أما القصيدة التي مثلت جسر عبور في موضوع هذه المحطة فهي، رسالة العجوز، الباكية، التي تعرف نفسها بعمق إنساني عميق:
.
..أنا شيخة من عالم الصح
راء والأفق الحزين.
حيث الطبيعة فظة،
حيث المشاكل لاتلين،
قد كان لي ولد يسمى المصطفى نجل الدمين...
.. قد كان في قلبي منى
قد كان في بطني جنين..
أما تكريس هذه المحطة فنيا وموضوعيا وشكلا فكانت ذروته مع قصيدتي الليلتين: ليلة العبور،، أو العبور فقط، وليلة عند الدرك، وما لحقهما من قصائد حرة هائلة في فييتنام والمتنبي ومن قصائد عمودية بذات النفس الجديد، أحدثت إدهاشا حقيقيا في الذائقة الشعرية الموريتانية، وفي المحافل الأدبية العربية، وكرست الحداثة في الشكل والمضمون دون رجعة.
ونلاحظ بشكل خاص أن انتقال الشاعر من التقفية في قصائد هذه المحطة المحورية الى الحرية المقيدة باحترام التفعلة الخليلية، ثم عدم قطع الصلة ابدا مع القصيدة العمودية الحداثية، بطن نوعا من الانتقال التدريجي التصالحي مع الذائقة الشعرية الخليلية الراسخة، فربح الشاعر جمهوره المتجدد لصالح رؤيته الحداثية دون خصومة، وربح سمات الحداثة في أنصع تجلياتها، وكان من أسرار احتفاظ الشاعر أحمد بقاعدته الشعرية ومتلقيه المتزايدين دائما -حسب ما أرى- نتيجة لعدم تكلفه في الإبداع أو ابتساره للمراحل، أو التخلي عن أصالته.
وهنا نلاحظ عموما، أن الشاعر كان دائما ينتقل من محطة إبداعية إلى المحطة التالية بسلاسة لاتكلف فيها، بما وسعه من إبداع متجدد دون أن يخسر ماضيه، والسبب أنه يتخاطب تخاطبا مزدوج الاتجاه مع نسق وعي داخلى متسع الأرجاء، يحترم الذات وما يرد عليها من إشراقات إبداعية، ويستحضر مطالب الذائقة الشعرية ومتطلبات التلقي بحكم الحنكة، إضافة للتسلح بثقافة وفكر متجددين مع مستجدات العصر واستيعابها بشكل جيد. ثم، أكثر من ذلك، الوقوف دائما إلى جانب العدالة والحقوق، أحب من أحب وكره من كره. فأحمد كان دائما صادقا مع نفسه، عادلا في تعبيره متوازنا، لاتأخذه في الحق لومة لائم، يضحي فيسبيل ذلك بكل شيء، ولذا عكس شعره الاتصاف دائما بالشجاعة والتضحية وقوة الجحة، والحماس الصادق في التعبير عن قناعاته حتى ولو حاصره الجلادون:
.. وتحلقوا من حوله،
مثل الكواسر والوحوش،
يتكالبون على انتزاع
ثيابه عن جلده..
فهو صامد أمام جلاديه مهما توحشوا. هذه الشجاعة الأدبية سبحت في أعماق تجربة الشاعر أحمد، كما شكلت بنية الأمل في رؤيته الفكرية. ورغم الحروب النفسية والواقع الكالح والإغراء المادي.. فهو سينشد في غنائيته المتدفقة وهو في غياهب سجن بيله، مستحضرا بشجاعة أسطورية تفاصيل المأساة اليومية التي لم يرها يوما ألا مؤقتة:
..كم سجين تحمل الضرب حتى
كاد يمحا من عالم الأحياء
ثم وافاه حاكم يتزيا
بلباس المودة السمحاء
قائلا: يا أخي تعقل تبصر،
وتراجع عن مسلك السفهاء.
وستحيا مدى الزمان سعيدا
في رحاب العلى مع العظماء.
لست أهلا لأن تظل مهانا
في المآسي ممزق الأشلاء.
وبماذا يرد السجين الذي هو شاعرنا على الحاكم المتأنق، بعد ما أفرغ ما في جعبته من نصائح بين مزدوجين؟ يجيبه بكل تحد:
.. أفبعد السياط ترجو انصياعي لوعود منسوجة من رياء؟
أو تهدي إلي باقة ورد
جمعت حول حية رقطاء؟
لاتحاول خديعتي فهي أمر
ليس يرجى يا سيد الحكماء.
انا لا أحتسي دماء جراحي
،لا، ولا أنثني تحاه الوراء..
وخلال هذه الملحمة القاسية يخرج الشاعر بحكمة غير متوقعة من أعماق ظلمات القمع والتنكيل:
..وحياة الهوان تذكي قديما
في ذوي المجد غضبة الكبرياء.
وعلى سنام غضبة الكبرياء تشرع هذه الغضبة أمام السجين المقهور جسديا، عالما رحبا من الأمل ينسيه كل آلامه وآلام شعبه ورفاقه وتنير المستقبل في عينيه:
..قد حباني تفاؤلا مستمدا
من حنايا المستقبل الوضاء
أنظر الحاضر الكئيب المغطى بضباب من أدمع البؤساء
فأرى في الرماد جمرا دفينا
وأرى في الدجى بذور الضياء.
عندما تعزف الأناشيد نغما
أبديا مكهرب الأصداء..
وكما خرجت من العسف في فلسطين ثورة الفتح، فكذلك ستخرج الآمال المشرقة من كل ظلام يغشى الكون.
هذه الرؤية الفلسفية العميقة للشاعر أحمد ولد القادر هي التي جعلته شجاعا في العمق ولا يستسلم لأي واقع ظالم مهما كانت قتامته ومهما كان بطشه.. وسنتعرف في المحطات الباقية على نماذج تؤكد عمق الروح الملحمية في جلاد الشاعر ضد أي ظلم أو ظلام.
ضروب تطورات نوعية لتجربة شاعر موريتانيا الرائد أحمد عبد القادر نلقاها في خطوتنا التالية.
لكم التحية وله الشفاء والعافية.