عن بيتي الدَّوَّار
قبل أيام اتصل بي صديق عزيز وطلب مني بيتين للترحيب بالداخلين إلى انواكشوط يُنقشان في لوح خشبي رمزا لأصالة البلد فبادرت بكتابة البيتين محل الجدل لأنني أُوقن أن هذه لفتتة مُقدرةٌ واعتناء من جهة رسمية باللغة العربية يجب أن لا ينسى وأن لا يطوى في كتب هارون وموسى.
وحين رفع الستار عن البيتين غير مُوَّقعين كتب عنهما بعض الفسابكة قدحا ومدحا فسررت لهذا الحبر الذي ما كان له أن يسيل لو عرف صاحب الإمضاء؛
فنحن في بلد لا ينشط فيه النقد إلا عندما تكون جريمة القول مسجلة ضد مجهول!هل كان ذلك جبنا ثقافيا أم نفاقا اجتماعيا أم تيقنا في قرارة النفس بعدم كفاية الأدلة؟!في عام مضى كلفت نفسي الكتابة عن النشيد الوطني الجديد رغم أن من بين كاتبيه أصدقاء وشعراء فحولا لكن القناعة تأبى الاستخذاء وإن كلفها ذلك ضد ما ألفت من جميل الصحبة:فإن تك خيلي قد أُصيب صميمها فعمداً على عين تيممت مالكاومع أنه قد يوجد قول لا قائل به فإنه لا يوجد قول لا قائل له ما يجعل الناقد الشريف يفعل كما تفعله المحاكم من تعيين المحامين لمن لا محامي له فيفتح ثلث عين الرضى مقابل عينه المفتوحة بالكامل على مساوئ النص.
حين فكرت في البيتين أعتبرت أنني منتدب لكتابة ترحيب باسم عامة المواطنين بعامة القادمين وعلمت أن نسبة المثقفين والشعراء ممن يجوبون أقطار المعمورة طولا وعرضا لا تبلغ نسبة الوعي في بلادنا كما رصدها طيِّب الذكر ولد اماه ــ زارت ضريحه شآبيب الرحمة ـ ذات انتخابات رئاسية فارطة؛ فعمدت إلى أُسلوب سهل لا يُنزل المثقف من برجه العاجي أكثر من درجة أو درجتين لملامسة أصالة لغته وصدق مضمونه، ولا يحتاج عامة الناس ممن أرهقهم السفر وتعاورتهم المطارات إلى وضع الشروح والحواشي عليه فيكون ذلك إلى ما هم فيه من الوعثاء ضغثا على إباله.
صحيح أننا وصفنا ببلد الميون شاعر قبل أن يبلغ تعدادنا مليون نسمة، وصحيح أننا حساسون من مسألة الشعر الذي ما هو إلا جنس من القول تقتضيه مقامات مختلفة فـ:ربابةُ ربَّة البيتِ تصُبُّ الخلَّ في الزيتلها عشرُ دجاجات وديك حسن الصوتىأحسن عند صاحبتها من " قفا نبك" ولو كتب الشعراء على شرط النقاد لما حفظ أيٌّ منا:
ولما قضينا من منى كل حاجة ومسّح بالأركان من هو ماس
حوشدت على حدب المهارى رحالنا ولم ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطي الأباطح
وإذا كان بعض من كتب عن هذه المسألة كتب عن علم واقتناع فإن هناك من كتب عن جهل واتباع، وربما بال حمارٌ فاستبال أحمرة؛ فلوحة المفاتيح أصبحت أقصر الطرق إلى الفتوة وتزبُّب الحصرم.
لو كنت من المتكلفين لَأرج البيتان بالياسمين والنسرين ولتشبَّعت فيهما بما لم يُعط شعبنا الطيب من مباهج الرياض وأشذائها لينقلب من خبِر ذلك من الضيوف منشدا مع ابن سكرة:
غشّت خميرة يوم العرس حاجبها بريقها وأتتنا وهي مخْتَضِبَهْ
فقلت للزوج لا تغررك حمرتها فإنها القفل موضوع على خَرِبَهْ
يجدر بنا أن نعلم أن ما يكتب على واجهات المدن وأقواسها من الشعر ليس مثل الذي يكتب في الحدائق وعلى النقوش المعمارية فالأول ينبغي أن يكون شعر شعور صادق غير مثقل برتوش الصنعة، يُشعر الزائر بأنه مرحب به في هذا البلد، أما الثاني فله أن تُجنح أخيلته وتتراقص صوره لأنه داخل في إكرام الضيف بعد دخوله واستراحته واستجمامه وانفتاح شهيته النفسية وذائقته الأدبية.لقد حمل البيتان ترحيبا نمطيا على عادة أهل هذا المنكب وتأسيا بترحيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بوفد عبد القيس وبمن عاتبه فيه ربه، ولا أرانا تاركين تلك الكلمات إلا إذا تركنا إكرام الضيف وتركت النيب الحنينأخيرا فإني لا أُعدِّي عن جناح مهيض حين أعدل عن استخدام ما درج عليه أسلافي من اللفظ المقسئن والتعبير المكتنز إلى طريقة اليسر والسهولة وأنا أُخاطب أضاميم من سَفْر البشرية عند دوَّار لا يقيمون به إلا ريثما يتحلون:
وهل أفنى شبابي غيرُ هر
ومع أن البيتين أصلا مكتوبان للضيوف المُغَيَّب رأيهم فأنا سعيد بما أثاراه من تباين بين من رأى المسافة تتقلص بينمها وبين عبثية(الليل ليل والنهار نهار) ومن يرى لهما تفوقا على البيت الشهير المرقون على بعض واجهات المدن العربية:
يا ضيفَنا لو زرتنا لوجدتنا نحن الضيوف وأنت رَب المنزل
لما اشتملا عليه من صنوف الأحتفاء ولما في تعبير (رب المنزل) من إيحاءات قد لا تروق من يُبعدون النجعة في غور الدلالة.ولا يزالون مختلفين ولذلك خلقهم.