لقد ظلت النخب السياسية والدينية والعلمية في غالبية دول العالم الإسلامي تنادي بالتسامح وتتخذه شعارا وهدفا ينبغي تحقيقه، لكن ذلك ظل على مدى العقود الأخيرة مفهومًا حالمًا وطرحا دعائيا يتم استدعاؤه في كل مناسبة ومن غير مناسبة لدرجة الابتذال، كلما أُصيبت المجتمعات الإسلامية والغربية بأزمات داخلية حادة؛ خصوصًا مع صعود موجات الإرهاب والعنف المسلح والتمييز الديني، واستهداف الأقليات الدينية والعرقية في الغرب.
غير أن الرهان الفعلي والتحدي المستدام ظل يكمن بين الأمنيات العريضة وبين تجسيدها في مبادرات عملية راشدة، وأهداف تجد طريقها رغم الصعوبات إلى التحقق على أرض الواقع؛ وهذا بالذات ما اقترحته دولة الإمارات العربية المتحدة، بالتعاون مع المملكة المغربية؛ ممثلًا في توجه جلالة الملك محمد السادس الذي دشَّن “إعلان مراكش” المدينة العالمية التي تعكس أبهى صور التعددية والتنوع؛ حيث اجتمع أكثر من 250 من الفاعلين البارزين في الحقل الإسلامي من العلماء، يتقدمهم الشيخ عبد الله بن بيه، رئيس منتدى تعزيز السلم ومفتي الإمارات؛ لمناقشة ملف الأقليات الدينية، وضرورة صياغة عقد اجتماعي جديد يقوم على المواطنة، والالتزام بحمايتهم في الدول ذات الأغلبية المسلمة.
لقد تم التاسيس لـ“إعلان مراكش العالمي” خلال المؤتمر الذي ضم أطيافًا من قادة الرأي والفكر وعلماء الشريعة عبر إحياء جذوره التاريخية الضاربة في أعماق التاريخ الإسلامي منذ صدر الإسلام و زمن النبوة، وتحديدًا ميثاق المدينة المنورة، في وقت بلغ فيه التجاذب والعداء حدًّا استحال إلى تهديد وجودي لأمن العالم، واتخذ صورًا قاتمة شملت استهداف المعابد والمساجد والأقليات، وصعود اليمين المتطرف، وتغوُّل الإرهاب المسلح الذي عكس صورًا سلبية لسماحة الإسلام.
لم تكن مبادرة أبوظبي المشتركة بين منتدى تعزيز السلم بقيادة الشيخ عبد الله بن بيه من جهة، وبين وزارة الشؤون الإسلامية المغربية من جهة أخرى، مجرد دعوة سياسية أو فعالية دبلوماسية رسمية عابرة، وإنما أريد لها أن تشرع أبوابًا للحوار الصادق وورش عمل لأهم القيادات الدينية الإسلامية ضمن كيان وليد يرأسه الشيخ عبد الله بن بية (رابطة الأديان من أجل السلام RTP)، ويشارك فيه العلماء كفاعلين في صياغة جديدة لميثاق المدينة بروح عصرية تسمي الأشياء بمسمياتها؛ ومن ذلك الانحراف الكبير الذي طرأ على صور الإسلام المختطفة من جماعات التكفير والعنف المسلح والتنظيمات الإرهابية .
لقد وضع إعلان مراكش العالمي، بشكل عملي، أُطرًا فكرية تُلائم الدساتير الوطنية، وتُعلي من مفهوم المواطنة والمواطن بغض النظر عن انتمائه الديني، وتتلاءم دون عراقيل متوهمة مع ميثاق المؤسسات الدولية؛ كالأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهي قفزة غير مسبوقة على طريق التسامح والتعايش ضمن إطار قانوني تحميه الدولة الحديثة.
كما أكد الميثاق العالمي الذي انطلق من مراكش عدم شرعية استخدام الدين للانتقام من المواطنة الكاملة للأقليات الدينية في البلدان الإسلامية، وهو ما يعني قطع الطريق على التصنيف الحربي للعالم كدار حرب وإسلام، والذي كرَّس لأبشع أشكال التعصُّب الديني، وأسهم في تغذية موجات التمييز اليمينية وخطاب الكراهية الذي أصاب المجتمعات الإسلامية والغربية، على حد سواء، بتصدعات كبيرة وجروح غائرة.
وجنبًا إلى جنب، استقطب إعلان مراكش أهم الفاعلين من الأديان الكبرى، وممثلين للأقليات التي تعيش في العديد من البلدان الإسلامية، والذين أعربوا بدورهم عن امتنانهم للعلماء من المسلمين على هذه الخطوة الشجاعة في فتح النقاش، وكما هي الحال مع مبادرة دولة الإمارات في عام التسامح الذي أعلنت عنه كهويَّة حضارية لها.
لقد طالب الفاعلون من مختلف التوجهات والتيارات بطيِّ صفحة الماضي، ودعوا إلى ضرورة تجاوز كل ما سبَّبه العنف المنظم تحت شعارات دينية، والبدء في تحويل كل بواعث القلق والخوف من النزعات الدينية المتطرفة ورهاب الإسلام إلى كلمة سواء مفتاحها “وطن يسع الجميع”، ومواطنة متساوية الحقوق والواجبات تسعى إلى بناء مجتمعات السلم والأمان والرفاه.
وتزامن إعلان مراكش مع الزيارة التاريخية التي أداها البابا فرنسيس للمغرب حيث اغتنمها فرصة ليؤكد أمام جلالة الملك محمد السادس على أهمية هذا الميثاق؛ مبينا أن ما رآه شكَّل بداية للأمل في وقف خطابات الكراهية والتمييز الديني، وأنها فرصة كبيرة عملية لتجاوز مفهوم الأقليات الدينية واستبداله بتأكيد المواطنة والاعتراف الكامل بقيمة النفس البشرية كمحدد أساسي ومركزي يجب أن يتأسس بدعائم القانون وسلطة الدولة.
جدير بالذكر أن منتدى السلم الذي أطلقته الإمارات من أبوظبي كان حجر الأساس لهذه الفكرة الطموحة منذ عام 2016 إلى أن جاء “ميثاق مراكش” الذي سعى إلى بلورة تلك المبادرة إلى صيغة تعاقدية للانتماء الديني وعلاقته بالدولة الوطنية.