لعل موضوع دور موريتانيا يحتاج حلقة خاصة نعد بها بعد تحصيل كامل الأرشيف فترة أبي الأمة وآفاق الفترة الحالية، كان يراد لهذه الحلقة أن تكون الرقم 4 من المشهد السياسي بعد الحلقة 1 (قراءة في المشهد السياسي) و2 (قراءة استشرافية قبيل الاقتراع الرئاسي الأخير) و3 (مشروع معاهدة سلم اجتماعي).
ولأسباب أظنها موضوعية متعلقة من جهة بركود وعدم وضوح التحاور المزمع بين الأطراف السياسية في البلد، وأملا في إحلال ما ينفع الناس فضلت المراوحة إلى موضوع هو الآخر مهم: الأمن القومي العربي وذلك قطعا للرتابة وتنويعا في الكتابة والإخراج وعطفا أو تعاطفا مع جغرافيا تتناقص وتتآكل وأقوام يتناحرون ومصيرهم لا شك إلى زوال إذا لم يتم التدارك.
مرحلة تاريخية 1964 - 1975
تميزت هذه المرحلة بظهور لاعبين أساسيين على مستوى العالم العربي والخليج بشكل عام (إيران والمملكة العربية السعودية).
وحينها كان التوتر بلغ أشده بين إيران والعالم العربي من جهة وإيران والمملكة العربية السعودية من جهة أخرى.
من أسباب ذلك التوتر: الهجرة الإيرانية إلى إمارات الخليج قصد الاستحواذ ومناوراتها مع أمريكا.
لقد كانت السعودية هي المهيأة لوحدها لمواجهة ذلك التحدي بسبب انشغال مصر باحتلال أراضيها من طرف إسرائيل وتراجع دورها العربي بعد هزيمة 1967 أما الكويت فقد كانت مدركة لعجزها عن التصدي لإيران كما أن العراق كان غارقا في أزمات داخلية هو الآخر.
ثم إن طموحات الشاه التوسعية في النفط زادت الوضع سوءا, ما جعل العلاقات تسير سلبا; هذا الأمر كان له الأثر على أمن الخليج الذي هو جزء لا يتجزأ من الأمن القومي العربي العام.
ولما قررت ابريطانيا الانسحاب من المنطقة تحت ضغوطات عدة اعتقدت إيران أن ذلك سيمنحها فرصة الاستفراد بالمنطقة وبأمن الخليج ولعب دور الدر كي في شبه المنطقة.
دعواهم ملء الفراغ بعد الانسحاب المزمع ومن ثمة مد اليد والسيطرة على منابع النفط.
ثم إن التخلخل السكاني في الإمارات وتعويضه بالهجرة الوافدة من إيران كلها عوامل فعلت فعلها في تبيين نيتها.
وقد لعبت السعودية دورا جوهريا في مواجهة ذلك التغلغل البشري والاقتصادي.
ولأن إيران كانت تمد إسرائيل بالنفط وبينهما علاقات دبلوماسية فقد اتسمت العلاقة مع العالم العربي بالقطعية التامة، هذا بالإضافة إلى وجود جالية يهودية في إيران مدربة وقد تكون مستعدة للعمل لصالحها إذا ما دعت لذلك ضرورة بحسب بعض المحللين.
لكن وبعد حرب 1967 وتنديد إيران بذلك العدوان حصل تقارب بين الأمتين، تلاه ميلاد منظمة المؤتمر الإسلامي بالرباط سنة 1969 وذلك بعد إشعال النار في المسجد الأقصى من قبل متطرف يهودي فكانت تلك بداية تحول في المواقف.
إن الانسحاب المزمع من طرف ابريطانيا سيترتب عليه فراغ أمني وعسكري وسياسي لا بد من تعويضه وهو ما طرح بإلحاح مسألة أمن الخليج.
غني عن القول بأن تنامي قوة أمريكا والروس والتوجه القومي لدي العالم كل ذلك عجل من انسحاب ابريطانيا من الخليج ,الأمر الذي طرح وبشدة مشكل أمن حركة النفط في الخليج بصفة عامة وخاصة مضيق باب المندم.
إن ما ذكرنا يؤكد أن الأمن في الخليج ظل ولا يزال على الأجندة العالمية, فيما بعد عمدت أمريكا إلى محاولة سد الفراغ عبر خلق تحالف إقليميي باكستاني- تركي - سعودي إلا أن الأخيرة رفضت مفضلة أن يكون ذلك من مسؤولية دول الخليج نفسها لا من خارجها.
وسعيا إلى التهدئة وقد توفرت بعض الظروف الملائمة المذكورة سعي الجميع إلى الابتعاد عن كل ما من شأنه تعكير صفو الأجواء من باب تسمية الخليج بالخليج (عدم إضافته لا إلى فارس أو إلى العرب) وبعض اللين في قضايا أخرى وبحسب علمي بالتاريخ فقد لعب الملك فيصل رحمه الله دورا أساسيا في كل تلك الأمور وقد أوضح التاريخ فيما بعد أنه صاحب حكمة.
أضف إلى ذلك الدور الذي لعبه الملك المغربي الحسن الثاني رحمه الله في التقارب بين إيران والسعودية ما مكن الشاه من زيارة الرياض بعد كثير من التأجيل.
نقطة مهمة نقف عندها:
في فبراير 1970 القي الرئيس الأمريكي نيكسون خطابا أوضح فيه أن أمن الخليج من مسؤولية دوله مع اكتفاء الولايات المتحدة بتوفير المعدات العسكرية وغيرها من السلاح واستعدادها للتدخل حال حصول أوضاع تخرج عن السيطرة.
هذه الرؤية مستوحاة من الحرب في فيتنام وهي قائمة على خلق قوة إقليمية تقوم بحفظ الأمن بالنيابة عن أمريكا.
انظر معي كيف تتشابه الأمور بل وتتطابق بعد عديد السنين إن لم تقل الدهور وكأن لنا الحق في القول: (ما أشبه الليلة بالبارحة).
والغريب في الأمر كذلك أن أمريكا التي كانت ملتزمة بأمن الخليج قد هددت بعد حرب أكتوبر بالغزو العسكري لمنابع النفط.
إن التحليل المنطقي يجعل المرء يدرك أن للدول مصالح هي التي تحدد شراكتها وأن ليس لها عدو أبدي ولا صديق.
وليسامحني القارئ فقد أكون ابتعدت عن الموضوع ليس رغبة في الاسترسال في مواضيع تاريخية ولكن لإظهار أن المصالح عبر التاريخ كانت وستظل هي المحرك لكل الذي يجرى سياسي - اقتصادي الخ.. وإذا كان ما ذكر يمكن أن يساعد على تبيان أن الأمن العربي كان دوما مهددا فإنه اليوم ليس بأفضل حال زد على ذلك غياب الرؤية المبنية على التحليل العلمي وانعدام مكاتب دراسات متخصصة مع الترشيد المفرط في مخصصات البحث.
ضف إلى ذلك ما تشهده المنطقة من صراعات - الله وحده يعلم نتائجها - والموت المتكرر حتى إنه لم يعد يلفت انتباها ولا حتى يثير شعورا اللهم عند من يسمون أنفسهم بالمدافعين عن الإنسانية، وذاك ما جاء بهم من بلاد بعيدة ونشروا به الاستعمار الذي يعتقدا لبعض أنه زال بينما هو يأخذ أشكالا أشد سوء على الأمة.
لا احتاج هنا لذكر التفاصيل فيكفينا جميعا ما تنقل المواقع والنشرات المصورة المتعددة الأهداف والخلفيات عن الحروب الدائرة.
وقد قيل قديما "مخطئ من ظن يوما أن للثعلب دينا".
فمثل ذلك القوى الكبرى والتحالفات التي لا تؤمن إلا بمصالحها الخاصة.
ذلكم جانب قليل عن جزء من أمن أمة وفي مرحلة محدودة ومع أنني أدرك الذي طرأ على مستوى علاقات الأمة العربية بغيرها, خاصة علي مستوي العالم الإسلامي والتحولات التي دخلت على الخط في كامل الجغرافيا ومذاهب أمم تدعم اليوم فلسطين والأقصى فالخطر علي أشده.
ولعل الباحثين أظهروا أن العمل من دون تنظير أعمي والتنظير دون عمل كسيح والصواب الجمع بين الاثنين لتتم الفائدة وذلك تبعا لسنة ابن رشد وابن خلدون وغيرهم ممن تأثروا بمنهج أفلاطون الداعي إلى صفة الملك الفيلسوف.
إن على دارسي الأمن القومي العربي اليوم أن يأخذوا في الحسبان كافة عوامل التأثير: الاقتصاد، الثقافة، التكنولوجيا وكذلك اعتبار الفضاءات المجاورة: التركية - الإيرانية والأوربية وكذلك الإفريقية وعلى المسؤولين العمل على تفعيل بعض القرارات المهمة جدا المتخذة من طرف جامعة الدول العربية لكنها محجوبة عن التنفيذ.
عليهم كذلك معالجة هذا القصور المشهود عندنا مقارنة بما عليه حال المنظمات الإقليمية التي قطعت أشواطا مهمة, ينعم أهلها بالرخاء.
وكما قال أمير المؤمنين ابن الخطاب (أو ما معناه ): رحم الله من يهدينا عيوبنا ومن بعده قال كانت "النقد أفضل وسيلة بناء اكتشفها الإنسان".
إن أنت نظرت إلى هذا كله وجدت أننا لا نساير الركب بل لا زلنا نعد النقد سلبا وإظهارا للعيوب وأنه من باب التجني والتنابز.
إن أشد ما نعانيه اليوم هو اتساع الفجوة بين الأنظمة والشعوب ما جعل الشباب محبطا ومهاجرا جغرافيا حتى صرنا موضوع مفارقات مدهشة مقارنة مع ما عليه وضع الشعوب الأخرى، وقد صاحب ذلك وضع أليم فيه الاستيطان والاحتلال الظاهر والمستور واستغلال الموارد، كل ذلك من وجهة نظر البعض ولد الغلو.
والعجيب أن ديننا الإسلامي يحث على الوحدة, والمسلمون متفقون بالفعل على الكثير من الثوابت إلا أن الأعداء يراهنون على صناعة مذاهب وافدة مدمرة.
إن الأمة ومثقفوها خاصة لم يدركوا بعد أن عوامل وحدتهم متوفرة بل هي الأكثر قابلية للتجسيد مقارنة بما عليه الكيانات الأخرى.
ولم ندرك كذلك أن مصالح الدول الكبرى أكثر في عالمنا العربي منه في أية جهة أخرى ومع ذلك فهذه الدول تساعد جهرا عدونا وذلك على حساب مصالح الأمة.
فإذا أضفت إلي ذلك الاعتماد على استيراد الغذاء استخلصت عاملا آخر سلبيا يلحق الضرر بالأجيال الحالية والمستقبلية وعاصف لا محالة بالأمن الاجتماعي.
على حكام الأمة التفكير الملي فيما اصطلح على تسميته بالاكتفاء الذاتي في ميدان الغذاء.
إن واجب الأمة اليوم أن تهب وتعمل على تفعيل مشروع نهضة شامل لتتجنب الويلات وعظيم الأمور وهي قادرة على ذلك بفعل ما لديها من مقومات مادية وبشرية طبيعية.
وبعون الله, في حلقات قادمة سأقدم لواقع وآفاق أمن الأمة ذاكرا نجاحات حرب أكتوبر للتدليل على أن الهزيمة ليست قدرا وآخذا بعين الاعتبار تولي موريتانيا الرئاسة الإفريقية ما يلقي عليها مسؤولية مضافة بل ومضاعفة.