ظاهرة الهجرة: غلبة الحلول الأمنية

ثلاثاء, 2014-12-23 08:52

لم يكن ثمة ما يستدعي توقع انتهاء القمة الرابعة بين الاتحاد الأوروبي وأفريقيا التي انعقدت في بروكسل منذ بضعة أشهر، بطريقة مختلفة عن سابقتها التي انعقدت في ليبيا عام 2010، بما فيها التأكيد على "وضع خطة عمل لمكافحة الهجرة غير النظامية، وتشجيع قيام تعاون فعال لتفادي العواقب المأسوية للهجرة السرية ولمكافحة الاتجار بالبشر، علاوة على تعزيز الحماية الدولية لطالبي اللجوء وتأكيد الترابط بين التنمية والهجرة".

 

بالطبع لم تعلن قمة 2014 عن تحقيق تقدم جدي في أيٍ من المجالات المذكورة.

 

وتماما مثل السابق، فلا يملك الطرف الأفريقي القدرة إلا على القبول بالسياسات التي يفرضها الإتحاد الأوروبي والتي تتصاعد صرامتها مع تصاعد تأثير الدور السياسي للتيارات اليمينية فيه المطالبة بتشديد الإجراءات الأمنية في التعاطي مع ظاهرة الهجرة. ولن يكون في قدرة الزعماء الأفارقة مواجهة ضغوط الإتحاد الأوروبي ومطالبته لهم باتخاذ الإجراءات الأمنية اللازمة لمراقبة الهجرة من بلادهم أو عبرها إلى أوروبا. فهذه الضغوط مترافقة في الغالب مع وعود بمعونة أو بتسهيلات استثمارية.. أي بفساد مستشرٍ.

 

 

 

متانة الدولة القُطرية

 

يواجه قادة الإتحاد الأوروبي عدداً من المعوقات التي حالت حتى الآن دون صياغة سياسة أوروبية موحدة قابلة للتنفيذ للتعاطي مع الهجرة بأشكالها. أبرزها تلك التي تتولد من التناقض المتأصل بين الدولة القُطْرية والإتحاد الأوروبي ككيان سياسي فوق قومي. لقد تكرّس استقرار الاتحاد الأوروبي كمنظومة سياسية، وبخاصة خلال ربع القرن الماضي منذ نهاية الحرب الباردة.

 

غير أنه لم يتمكن من إضعاف دور الدولة القطرية في مجالات رئيسة من بينها الشؤون الخارجية والدفاعية والسياسة الضريبية، علاوة على مراقبة الحدود وإدارة الهجرة عبرها. ففي هذه المجالات تبرز الأسس التي دشنتها اتفاقيات سلام ويستفاليا (1648) والتي مهّدت لنشوء الدولة الإقليمية الحديثة في أوروبا، أي الدولة ذات السيادة المعترف بها والقادرة على احتكار استعمال القوة وسن القوانين وإنفاذها ضمن حدودها.

 

وبينت محاولات فاشلة كثيرة طوال العقود الماضية، منذ أولى الخطوات باتجاه إقامة "كيان أوروبي" التي تمثلت في اتفاقية روما عام 1957، مدى صعوبة تخلي الدولة القطرية وأجهزتها عن سلطاتها التي تكرّست عبر أربعة قرون ونصف القرن.

 

أحد تداعيات هذا الوضع يتضح في استمرار عدم التزام الدول الأعضاء بإنفاذ القوانين واللوائح التي تتخذها مختلف المستويات القيادية في الإتحاد. فسريان هذه القوانين والإجراءات وتطبيقها يتطلبان، حسب معاهدة الإتحاد، أن يصادق برلمان كل بلد عليها. لهذا تسعى بعد الدول إلى تعطيل المصادقة على قانون في برلمانها أو قد تلجأ بعد المصادقة عليه إلى عرقلة وضع الآليات البيروقراطية اللازمة لتنفيذه.

 

ولا تختلف حال الدول الكبرى في الإتحاد عن دوله الأصغر في هذا المجال. وتتزايد أهمية هذا الفشل بفضل طبيعة وتركيبة الأجهزة البيروقراطية الذي يقوم عليها الإتحاد الأوروبي والتي تقيد حركتها في كثير من الأحيان الاتفاقيات التي وُضعت أساسا لضمان استقلال قرار كل دولة قطرية.

 

وفيما يتعلق بمراقبة الحدود وإدارة الهجرة، فإن عشرات الاتفاقيات التي تمت، منذ اتفاقية روما (1957) مروراً بإعلان السوق الأوروبية الموحدة في 1993 إلى يومنا، لم تؤدِ إلى تجاوز تسوية ذلك التناقض المتأصل بين الكيان القطري والكيان ما فوق القومي.

 

فالحريات الأربع، أي حرية انتقال الرساميل والبضائع والأفراد والخدمات، التي قامت عليها السوق الأوروبية الموحدة ما زالت تواجه عراقيل جمة بسبب الإجراءات الأحادية التي تتخذها عدد من الدول الأوروبية للحد من الهجرة إليها من بلدان الإتحاد الأوروبي ومن خارجه.

 

ولا تنحصر هذه الإجراءات الأحادية في ما يتعرض له أفرادٌ ينتمون إلى الأقليات الأوروبية المستضعفة، مثل "الروما" (الغجر) في فرنسا وإيطاليا وغيرهما.

 

فبريطانيا تعمل منذ سنوات على إقناع بقية دول الإتحاد بإضافة قيود جديدة للحد من حرية انتقال مواطني دول الإتحاد الأوروبي، بهدف تقليص ما تسميه "سوء استخدام تلك الحرية". والمقصود هنا هو الحد من هجرة مواطني الدول الأوروبية الفقيرة كبلغاريا ورومانيا إلى بريطانيا وغيرها من البلدان الأوروبية الغنية. وقد ازدادت احتمالات إضافة هذه القيود بعد أن تبنت تلك الدعوة دولٌ ذات تأثير منها ألمانيا وهولندا والنمسا.

 

 

 

اختلاف المعطيات

 

تختلف المعطيات القُطرية في دول الإتحاد الأوروبي. فمن جهة، سهّل التاريخ الاستعماري لبريطانيا وفرنسا وهولندا على سبيل المثال استدعاء موجات الأيدي العاملة من مستعمراتها للمساهمة في إعادة اعمارها وبنائها بعدما شهدته من دمار في الحرب العالمية الثانية. وقد تكونت، بسبب موجات الهجرة المتتالية منذ منتصف القرن الماضي، تجمعات بشرية ذات أصول آسيوية وأفريقية تسهم بدورها في استمرار تدفق المهاجرين.

 

في هذه البلدان أيضاً تتصاعد التيارات المعادية لوجود تلك "الجاليات" والمطالبة بوقف الهجرة. ليس للسويد أو بولندا أو دول البلطيق مثل هذا التاريخ الاستعماري، ولا توجد فيها تجمعات بشرية ذات حضور عددي وتأثير اقتصادي وسياسي واجتماعي كتلك التي في البلدان الاستعمارية السابقة. بل إن دولاً أوروبية أخرى، مثل دول البلطيق ورومانيا وبلغاريا، ما زالت تعاني ظروفاً اقتصادية تتشابه في بعض مظاهرها مع ما تعانيه بلدانٌ في العالم الثالث.

 

من جهة أخرى تختلف آفاق النمو الاقتصادي في دول الإتحاد الأوروبي بل وفي قدرة بعضها على الخروج من الأزمة الاقتصادية الراهنة. فبينما نجد بعض دول الإتحاد نفسها في حاجة إلى النظر إلى خارج أوروبا بحثاً عن أيد عاملة عالية الكفاءة، وخاصة في مجالات التقنية والخدمات الصحية والتعليمية، نجد أيضاً دولاً تعاني من ركود تنموي ومن بطالة أعداد كبيرة من العمالة غير الماهرة.

 

من جهة أخرى، تعاني جميع دول الإتحاد الأوروبي من انخفاض النمو السكاني الطبيعي ومن احتمالات استمراره في الانخفاض. بل إن 12 دولة في الإتحاد تعاني حسب أرقام 2013 من النمو السكاني الطبيعي السالب. وتشير تقديرات إلى أن عدد سكان أوروبا سيقل في 2050 بمقدار ثلاثين مليون نسمة عما كان عليه في 2010.

 

وتميل التوقعات الديموغرافية إلى إن تناقص هذا العدد سيزداد في السنوات القادمة مما سيضطر دول الإتحاد الأوروبي إلى بذل جهود إضافية لتشجيع الهجرة إليها كأحد أساليب التغلب على الانكماش الديموغرافي المتوقع.

 

ورغم هذا القاسم المشترك بين دول الإتحاد، فإن تأثير العامل الديموغرافي على القرار السياسي في كلٍ منها يتفاوت حدة وإلحاحاً. فدول وسط أوروبا تختلف عن الدول الإسكندنافية. ففي الأخيرة يعي متخذو القرار أن الحفاظ على مستويات النمو الاقتصادي الراهنة وضمان قدرتها على توفير خدمات مجتمع الرفاه حتى في حدودها الدنيا، يتطلبان التنافس الجدي على اجتذاب الأيدي العاملة عالية الكفاءة من مختلف مناطق العالم.

 

 

 

أسبقية الحلول الأمنية

 

بسبب عجز الإتحاد ألأوروبي حتى الآن عن صياغة إستراتيجية موحدة للتعاطي مع ظاهرة الهجرة بأشكالها، فقد تركزت جهوده في هذا المجال على الاتفاقيات الأمنية والإجرائية التي يتم إقرارها في اللجان المشتركة لوزارات الداخلية أو وزارات العدل. ولم يكن في صلب اهتمام هذه اللجان أو صلاحياتها التعاطي مع العوامل الاقتصادية/ السياسية/ الاجتماعية التي تدفع الناس إلى الهجرة، سواء عبر الطرق النظامية أو غير النظامية.

 

لا توجد في التقارير التي تصدرها اجتماعات وزراء الداخلية أو العدل الأوروبيين مداخلات أو إشارات لتفسير العلاقة بين اضطرار صياد سمك في قرية في موريتانيا أو في المغرب مثلا إلى الهجرة، وبين أساطيل صيد الأسماك الأوروبية العاملة التي تجرّف الثروة السمكية قبالة سواحل تلك البلدان، أو للاستفسار عن علاقة هجرة الناس بانتهاكات حقوق الإنسان في بلادهم على أيدي أنظمة تحكم بدعمٍ من دولٍ أوروبية.

 

تتبيّن أولوية الحلول الأمنية في سلسلة الاتفاقيات والإجراءات التي اتخذها الإتحاد الأوروبي حتى الآن للحد من بعض تداعيات الهجرة، دون التعاطي مع أسبابها. وهي إجراءات تنطلق من اعتبار الهجرة خطراً على أمن أوروبا واستقرارها، وليس على اعتبارها أحد عوارض اختلال موازين القوى في عالمنا، ونتائجه المتمثلة في عدم المساواة واستمرار أنماط الاستغلال التي دشنها الاستعمار الأوروبي.

 

تتبيّن أولوية الحلول الأمنية أيضاً في قرار الإتحاد الأوروبي إنشاء وكالة "فرونتكس" في 2005 لمراقبة الحدود، لتصبح عملياً أداة تجريم لكل أنواع الهجرة "غير الشرعية". وباتساع نشاطها وصلاحياتها، ارتفعت ميزانيتها الاعتيادية من ستة ملايين يورو في 2005 إلى أكثر من 30 مليون يورو في 2014.

 

يتطلّب تطبيق تلك الإجراءات تعاوناً مع الأجهزة الأمنية في الدول المصدرة للمهاجرين وفي دول المعبر. يساهم هذا التعاون بشكل مباشر وغير مباشر في تعزيز قدرات الأجهزة الأمنية في تلك البلدان. فعلى الرغم من أن اتفاقيات التعاون المعقودة لهذا الغرض تتضمن عبارات بليغة حول أهمية التنمية واحترام حقوق الإنسان، إلا أنها تخلو من الإشارة إلى الآليات اللازمة لتطبيقها ولتفعيل مشاريع التنمية وإزالة أسباب الفقر ومكافحة انتهاك حقوق الإنسان.

 

من أولى اتفاقيات التعاون الإقليمي التي أبرمها الإتحاد الأوروبي مع دول أخرى، تلك التي عقدها مع الدول العربية في شمال أفريقيا في 2005 و2006. فلقد أدت الترتيبات الأمنية المشتركة إلى زيادة المخاطر التي يتعرض لها الذين يحاولون المرور بأراضي هذه الدول أو استخدام سواحلها للعبور إلى أوروبا. بل وتكفلت دول الإتحاد الأوروبي إنشاء معسكرات الترحيل وتأهيل الأجهزة الأمنية في المغرب وتونس وليبيا ومصر للقيام بدورها في سد طرق العبور منها إلى أوروبا.

 

 

 

هجرة مطلوبة وهجرة مجرَّمة

 

ساهم غياب إستراتيجية أوروبية موحدة وقابلة للتنفيذ تسيِّر سياسات الإتحاد الأوروبي في إبقاء الوضع الحالي على حاله، أي عملياً في أن تقرر كل دولة سياساتها الخاصة لجهة من تتيح لهم الهجرة إليها والاستقرار فيها. في موازاة ذلك اتجهت الاتفاقيات والإجراءات التنفيذية التي اتخذها الإتحاد الأوروبي خلال السنوات الماضية في اتجاهين مزدوجين: اتجاه يشجع الهجرة إلى أوروبا وآخر يجَّرم الهجرة إليها.

 

الأولى، هي هجرة الأيدي العاملة التي تتم بموافقة مسبقة من الهيئات المعنية في دول الإتحاد لمواجهة احتياجات سوق العمل فيها. وتتنافس الدول الأوروبية في تقديم مختلف التسهيلات المهنية والمعيشية لتشجيع "الهجرة النظامية" باجتذاب المهاجرين من أصحاب الكفاءة العالية، وخاصة في مجالات تقنية المعلومات والعلوم الأساسية، سواء من الدول الأوروبية الأخرى أو من خارجها. وتزداد حدة هذا التنافس مع اقتناع متخذي القرار السياسي فيها بصعوبة معالجة تداعيات الأزمة الديموغرافية بدون موجات الهجرة غير الأوروبية.

 

أما الثانية، وهي الأكبر عددا بما لا يقاس، فهي "الهجرة غير الشرعية" التي يندرج ضمنها خليط مركّب من فئات المهاجرين، بمن فيهم الهاربون من الفقر والهاربون من ملاحقات أمنية وضحايا القمع السياسي، والهاربون من أتون الحروب الأهلية، علاوة على ضحايا الكوارث الطبيعية وضحايا عصابات الاتجار بالبشر.

 

وتتولى أجهزة مركزية في الإتحاد الأوروبي مواجهة "الهجرة غير الشرعية" بمختلف الطرق، كالترحيل الفوري للمهاجرين، بمن فيهم طالبو اللجوء، وتوسيع صلاحيات وكالة "فرونتكس" ومثيلاتها. وبموازاة ذلك تنشط هذه الأجهزة المركزية في توثيق التعاون الأمني مع أنظمة البلدان التي يفر المهاجرون منها أو التي يعبرونها في طريقهم إلى "القلعة الأوروبية".

 

* د. عبد الهادي خلف كاتب بحريني وأستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة لوند بالسويدـ

المصدر | السفير العربي