من أعلام هذه البلاد البارزين ـ وإن ضاع أغلب تراثه ولم يؤت حقه في ما كتب ـ آيةُ عصره وسيوطيُّه في التأليف الشيخ محمد المامي (ت1282هـ) بن البخاري الباركي، وقد منَّ الله عليَّ بالتعرف عليه عن قرب عند شيخنا عميد زاويته العلامة يابه بن محمادي ـ حفظه الله تعالى ـ؛ حيث شاركت في تصحيح العديد من مؤلفاته: كتاب البادية، والجمان، ورد الضوال والهمل إلى الكروع في حياض العمل، ومجموعة الرسائل المطبوعة، وديوانه الفصيح، وديوانه الشعبي "ديوان لغنا"، وصداق القواعد وشرحه؛ بل من الله علي كذلك بنقل بعض مؤلفاته ـ رضي الله عنه ـ بيدي، كديوانه الشعبي "ديوان لغنا"، وصداق القواعد وشرحه، ونظم إضاءة الأدموس، ونظم الحروف، ونجد المشاهير، وسلم البيان في علم البلاغة، وكثير من قصائده.ومن ما لفت انتباهي خلال رحلة التعرف على هذا الشيخ الجليل وهو مَن هو في الجولان في الكتب والبلاد تلك العلاقة الخاصة بينه وبين أهل المدن القديمة؛ من نقله عن كتب بعض أعلامها وثنائه على بعضهم، وقيامه بزيارة بعضها، واستفسار علماء بعضها له عن مسائل علمية دقيقة، وغير ذلك.
**ـ أعلام المدن القديمة في مؤلفاته:
++++++++++++++++++++
نقل الشيخ محمد المامي في الموجود المتوفر من آثاره عن فتاوى أعلام المدن القديمة، وأثنى على بعضهم وحدّث عنهم؛ فأكثر في كتاب البادية من النقل عن عالم تيشيت ومفتيها الشريف حمى الله بن الشريف أحمد المعروف بابن احماضَّه في نوازله(1)، كما نقل في نفس التأليف ـ أيضا ـ عن علامة شنقيط ومفتيها محمد بن المختار بن الأعمش العلوي في نوازله(1)، واعتذر عن تأخيره مرة، بأن من "حقه أن يتقدم لأن علم أهل المنكب البرزخي عند أهل الأمصار الشناجطة"(3).هذا إضافة إلى كونه في الحديث عن المكاييل ـ في كتاب البادية أيضا ـ قدم كلام أعلام بعض تلك المدن، لأن "الأنسب التصدير بكلام الأعهدين البلديين، وأقرب البلاد إلينا شنجيط، ثم تيشيت ثم تينبكت"(4)، وفي إحدى رسائله في زكاة مال النزاع احتج بـ"عمل شنقيط ووادان ونصهم في نوازلهم"، وبعادة أهل تيشيت، ونبه إلى نصهم على أن "الزكاة تدفع في المداراة إن كان في البلد فقير، ثم يقولون: ولا بد أن يكون في البلد فقير"، مضيفا: "وأحتسب أن معهم أهل تيشيت في تلك المسألة"(5). يقول في دلفينيته:وقيدت بمكان ما فيه مفتقر ** شناجط وتشيت والأوادينوانظر إذا شئت يوما في نوازلهم ** يظهر لك الحق من ذا والبهاتينوفي قصيدته النونية الوافرية التي دعا فيها إلى نصب الإمام أشاد بعالمين جليلين من علماء وادان هما السالك بن الإمام وأخوه أحمد سالم، بعد الإشادة بقومهما آل الحاج أثناء توجيه تاشمشه في قضية نصب الإمام، وذلك حيث يقول:فَيَا تَاشُمْشَ أَهْلَ الذِّكْرِ مِنْكُمْ ** سَلُوا إِنْ كُنْتُمُ لَا تَعْلَمُونَاتَعَيَّنَ ذَاكَ وَلْيَسْأَلْ سِوَاكُمْ ** سِوَاهُمْ مَنْ يُجِيبُ السَّائِلِينَاكَحُرْمَةَ أَوْ كَبَابَ بَنِي عَلِيٍّ ** فَإِنِّيَ مِنْهُمَا فِي الدَّاخِلِينَاوَآلُ الْحَاجِ أَنْصَارٌ كِرَامٌ ** إِلَى أَبْنَاءِ جَفْنَةَ يُنْسَبُونَاوَأَحْمَدُ سَالِمٌ مِنْهُمْ وَمِنْهُمْ ** أَخُوهُ سَالِكٌ فِي السَّالِكِينَا(6)كما تحدث عن السالك بن الإمام ـ أيضا ـ في كتابه الجمان، فذكر نقده لثلاثمائة مسألة من تأليف العلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي في البيان "عروس البيان" وتسليم العلوي لذلك النقد، راويا عن بعض تلامذة السالك أنه مع ذلك "لا يدرس في البيان إلا بذلك التأليف إعجابا به من بين كتب البيان الوافرة في وادان"(7).
** ـ الشيخ محمد المامي في وادان:
++++++++++++++++++++
تثبت الإضاءات والتلميحات التي سجل الشيخ محمد المامي في بعض آثاره أنه زار مدينة وادان، وفي تلك الزيارة ـ التي تشح المصادر بأي معلومة عنها ـ انتسخ منه أعلامها بعض تآليفه، وحدثت بينه وبين بعضهم مناقشات في مصطلح من مصطلحات أهل علم القواعد.يذكر تلميذ تلميذه الشيخُ محمد الخضر بن حبيب ـ وهو المصدر الأساسي في تاريخه وآثاره ـ في مفاد الطول والقصر أن له ـ أي الشيخ محمد المامي ـ حاشية على مشكل قصيدته السينية في الأحكام السلطانية "الأزهار اللازوردية في نظم الأحكام الماوردية"، وأنه قال فيها: "ونسخها ـ أي اللازورية ـ من عندي محمد بن الحاج الواداني المحمودي بجانب مناره، وبعض أغلال شنجيط بوادان أيضا"(8). وفي تعليق للشيخ محمد المامي نفسه على تسمية الونشريسي بالشارح يقول: "وأنكر عليّ بعض الفضلاء بوادان، وقال: إن الشارح عند أهل القواعد غير الونشريسي، وأنكر ما في السجلماسي، وقال: هذا السجلماسي عندي، فقلت له: خذه، فأخذ شارحا للمنهج، وفتحت عن القاعدة المذكورة فلم أر فيها لفظة الشارح؛ فقلت له: ليس هذا الكتاب بالسجلماسي، فنظرنا في أوله فلم نر نسبة الكتاب لمؤلفه، فقلت: لعلك اشتريته من السوق بادعاء بائعه أنه السجلماسي، وإني مؤجلك عاما، فإن وجدت تحقيق هذه النسبة، فابعث إلي في كتاب في ذلك"(9).
** ـ علماء شنقيط يسألونه ويباحثونه:
+++++++++++++++++++++
أما أهل شنقيط فيبدو أن له بهم صلة وطيدة، يباحثهم ويبعثون إليه لحل عويصات العلوم؛ تدل على ذلك تلك القصيدة الحائية الطويلية التي نظم فيها مسألة لزوم أن ما يتناهى لا يتناهى بزيادة واحد المعروفة بحوادث لا أول لها جوابا لسؤال بعث به إليه علماء مدينة شنقيط، وقد سطر عند نهايتها أنه كتبها "لأخيه في الله ابن عباس عَلَما ابن حبيـبي عَلَما وصفة" (مبعوثهم إليه)، يقول في مطلعها متحدثا عن إرسال أهل شنقيط له رغم بعد المسافة الواقعة بين محل سكناه وديارهم:أَكَلْنَا شَهِيًّا مِنْ عَرَارِ الْمُوَيْلِحِ ** تَبَاعَدَ مِنْ حَيٍّ بِشِنْجِيطَ مُصْبِحِفَجَاءَ إِلَيْنَا مِنْهُمُ أَمْسِ رَائِدٌ ** تَمَتَّعَ مِنْ أَزْهَارِنَا بِتَصَفُّحِوَبُغْيَتُهُ مِنْ ذَاكَ أَبْطَحُ وَاحِدٌ ** فَدَاهُ مِنَ آثَارِ الْحَيَا كُلُّ أَبْطَحِوَقَدْ كَانَ مَأْوَى كُلِّ ثَوْرٍ مِنَ الْمَهَا ** يُنَاطِحُ فِي أَرْجَائِهِ غَيْرَ أَرْفَحِوَهُوَّ مَقَالُ الْقَوْمِ آخِرَ رَدِّهِمْ: ** حَوَادِثُ لاَ أُولَى لَهَا إِنْ تُصَحَّحِيَصِحَّ لَنَا حُكْمٌ لَدَى كُلِّ حَادِثٍ ** بِحَصْرِ الذِي مِنْ قَبْلِهِ لَيْسَ يَمَّحِيفَذَا أَزَلِيًّا فِيهِ يَسْبِقُ آخِرٌ ** فَإِنْ بِانْتِهَاءِ الْحُكْمِ ذَلِكَ يَصْلُحِفَلاَزِمٌ اَنَّ الْمُنْتَهِي لَيْسَ يَنْتَهِي ** إذا زِيدَ فردا وهْو غيرُ مُوَضَّحِ(10)ثم يواصل في توضيح حل وشرح وإبطال قول بعض الفلاسفة اليونانيين بوجود حوادث لا أول لها.
وفي إحدى رسائله في زكاة مال النزاع ذكر مباحثة طريفة جرت له مع بعض أهل شنقيط لم يعينه ولم يبين هل كانت في شنقيط أم خارجها!! يقول ـ رحمه الله تعالى ـ: "تنبيه: وهو أني باحثت بعض أهل شنجيط في العلم، وسألتهم ما وجه شبهتنا في أتباعنا وزكواتهم؟ فقالوا: هكذا حالنا مع أتباعنا. فقلت لهم: أتباعكم أتباع حسان، وملكهم بينهم وبين حسان استقلالا، فلا يضركم إن أعطوكم زكاة مال ليس لكم فيه شبهة. قالوا: لا، بل أتباعنا في النخل والنعم خرجنا بهم من شرببه. فقلت لهم: أهل الأتباع منكم وأتباعهم أقلكم والحكم للأكثر. فقالوا: أتباعنا أضعافنا. فعرفت أن البلوى عامة كما عمت في سقوط دية العمد والخطأ للمسلم معا في عادة أهل تيشيت؛ لأن صلحاءهم يقولون لكل من نزل عليهم: اهْدِرْ دَمَّكْ وَالَّ لَا تِبْنِ، بالبربرية"(11).
** ـ أهل ولاتة والاستشهاد بشعره:
++++++++++++++++++++
وصل إنتاج الشيخ محمد المامي في ظرف وجيز إلى مدينة ولاتة في أقصى شرق البلاد، فقد تم افتتاح رسالة موجهة من مجموعة أهل ولاتة للأمير أحمد الكبير المدني ـ محفوظة بالمكتبة الوطنية الفرنسية ـ بالأبيات الستة الأول من حائية الشيخ محمد المامي التي يجيب بها قصيدة الحاج عمر الفوتي ويهنئه فيها ، وأثناء الرسالة وخلال الكلام عن مسألة التجارة للكفار أوردت الجماعة على سبيل الاستشهاد مقطعا آخر من النص نفسه، مع نسبته للشيخ، ونص كلامهم: "وللفقيه محمد بن البخاري في هذا المعنى:وَقَدْ كَانَ هَذَا الْقُطْرُ أَصْحَابَ فَتْرَةٍ ** فَيُعْذَرُ فِي مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصَالِحُلَهُمْ فِي الْفَتَاوَى عَادَةٌ عَمَلِيَّةٌ ** فَأُخِّرَ مَشْهُورٌ وَقُدِّمَ رَاجِحُوَيَكْفِي ضَعِيفٌ عَادَةً عَمَلِيَّةً ** وَلَوْ خَارِجَ الْأَرْبَاعِ قُوتٌ مَصَالِحُوَأَحْكَامُ بَادٍ غَيْرُ أَحْكَامِ حَاضِرٍ ** فَذِكْرُ الضَّعِيفِ وَالصَّحِيحِ تَسَامُحُإلى أن قال:فَقَامَ بِحَمْلِ الْعِلْمِ مَنْ صَلُحُوا لَهُ ** وَقَدْ خَرَجَتْ أُسْدٌ لِحَرْبٍ صَوَالِحُ" (12)
** ـ آثاره في مكتبات تيشيت:
+++++++++++++++++
يوجد بمخطوطات تيشيت التي قام بتصويرها مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث نسخة من نظم أهل بدر الصغير للشيخ محمد المامي بخط يده، وفيها عناوين لا توجد بالنسخة التي نشرتها الزاوية ولا في النسخ المخطوطة المتداولة، وذلك مثل: "العشرة بعده صلى الله عليه وسلم"، و"حرف الألف مرفوع"، و"باب مخفوضات الأسماء"، و"تمام حرف الألف"(13)، كما توجد بنفس المخطوطات نسخة أخرى من النظم نفسه بخط قريب من خط الشيخ، وفي تلك المخطوطات أيضا نسخة من نظم الشيخ لأسماء الله الحسنى بخط يده، ومعه نص شعري ليس من المتداول من شعر الرجل، وهو قوله في أسماء الله الحسنى:تلك الرُّسومُ وأهلُها وسماؤُهمْ ** والأرضُ من رَسْمِ الْحَبِيبِ الْأَوَّلِفلْيَبْكِ رَسْمَ الْخَلْقِ كُلُّ مُتَيَّمٍ ** شَوْقًا إِلَى لُقْيَا عَرُوسِ الْمَنْزِلِفَإِذَا بَكَيْتَ الرَّسْمَ حَقَّ بُكَائِهِ ** أَرْخَى لَكَ الْأَسْتَارَ دُونَ الْعُطَّلِجَلَّتْ عَنِ الدُّرِّ الثَّمِينِ لِأَنَّهَا ** أَسْمَاءُ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْأَجْلَلِلَيْسَتْ بِأَسْمَاءَ التِي مِنْ أَعْظُمٍ ** وَدَمٍ وَقَيْحٍ بَرَّحَتْ بِمُهَلْهِلِبَلْ هِيَّ أَسْمَاءُ التِي مِنْ أَجْلِهَا ** إِسْتَعْذَبَ الْحَلَّاجُ مُرَّ الْمَقْتَلِفِي مِثْلِهَا لَوْ أَنَّ شَيْئًا مِثْلُهَا ** فَلْيَلْذذِ الْعُشَّاقُ لَوْمَ الْعُذّلِ (14)
وقد كان ذلك ـ على قلةٍ فيه لشحّ المصادر ـ ما وقفت عليه من ما له صلة بعلاقة الشيخ محمد المامي بأهل المدن القديمة لحد الساعة، فقصدت بالتنبيه عليه إثارة داعي التنقيب عنه في الإخوة الباحثين لعل الله أن يمن بزيادة في الموضوع تظهر على يد بعضهم.ــــــــــــــــــــــــــــ**هوامش:++++++[1] ـ الشيخ محمد المامي (كتاب البادية، ضمن مجموعة من مؤلفات العلامة الشيخ محمد المامي): تصحيح الشيخ يابه بن محمادي، نشر زاوية الشيخ محمد المامي، ط1: 1428هـ = 2007م، انظر مثلا ص307، وص317.
[2] ـ م . س: انظر مثلا ص198، وص311.
[3] ـ م . س: ص318.
[4] ـ م . س: ص316.
[5] ـ الشيخ محمد المامي (رسالة في زكاة مال النزاع، ضمن المجموعة السابقة): ص530.
[6] ـ ديوان الشيخ محمد المامي، تصحيح اللجنة العلمية لزاوية الشيخ محمد المامي، ط1: 1435هـ = 2014م، ص443.
[7] ـ الشيخ محمد المامي (كتاب الجمان، ضمن المجموعة السابقة): 436.
[8] ـ محمد الخضر (مفاد الطول والقصر على نظم المختصر): مخطوط بزاوية الشيخ محمد المامي بانواكشوط: ج1/ ص401.
[9] ـ الشيخ محمد المامي (صداق القواعد): تصحيح الشيخ يابه بن محمادي، نشر زاوية الشيخ محمد المامي، ط1: 1431هـ = 2010م، س487.
[10] ـ ديوان الشيخ محمد المامي (مرجع سابق): ص481.
[11] ـ الشيخ محمد المامي (رسالة في زكاة مال النزاع، ضمن المجموعة السابقة): ص535.
[12] ـ رسالة من بعض أعيان ولاتة، محفوظة بالمكتبة الوطنية الفرنسية، ضمن الملف5713، وتوجد نسخة أخرى منها بالملف رقم5734.
[13] ـ مخطوطات تيشيت، محفوظة بمركز جمعة الماجد للتراث: الرقم168/ م بوي.
[14] ـ مخطوطات تيشيت، محفوظة بمركز جمعة الماجد للتراث، الرقم163/ م بوي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم/ المعلوم بن المرابط