عند تمام منتصف نهار اليوم، اكتملت آخر التحضيرات لأول جلسة محاكمة يخضع لها المدعو ولد امخيطير، كاتب المقال المسيء للنبي صلى الله عليه وسلم، والذي يواجه تهماً بالإلحاد والإساءة للجناب النبوي في مقال أثار الجدل قبل عام في الشارع الموريتاني.
كان المشهد داخل القاعة لا يبدو مختلفاً عن المحاكمات العادية؛ في الصف الأمامي يجلس 17 صحفياً في يد كل واحد منهم قلم وورقة، ومجردون من أي أدوات أخرى قد تمكن من تسجيل الصوت أو الصورة، حتى هواتفهم تركوها لدى حراس المحكمة قبل أن يدخلوا القاعة.
إلى جانب الصحفيين كان يجلس عدد من الأئمة والعلماء، أصروا على حضور محاكمة من أساء للجناب النبوي، بعد أن طالبوا منذ قرابة العام بتطبيق الشريعة الإسلامية فيه. في الجهة المقابلة من الصف الأول، جلس كتاب الضبط والمحامون المرافعون عن الجناب النبوي إلى جانب هيئة الدفاع المكونة من محاميين انتدبتهما المحكمة بعد أن أحجم الجميع عن المرافعة عن "المسيء للنبي".
في الصف الثاني جلس ممثلون عن هيئات المجتمع المدني، وإلى الخلف توزعت الصفوف بين الرجال والنساء من سكان العاصمة الاقتصادية نواذيبو، وهم يتطلعون لمعرفة ما ستسفر عنه محاكمة ولد امخيطير، الذي ارتبط اسمه باسم مدينتهم منذ أن كتب مقاله سيء الصيت.
محكمة.. محكمة !
دخل رئيس المحكمة إلى القاعة برفقته قضاة ومحلفون، وبسرعة عرض أمام الحضور القوانين والضوابط التي ستسير وفقها الجلسة، والعقوبة التي ستلحق بمن يقطع هدوء جلسة بدا واضحاً أنها ستكون ساخنة من بدايتها.
عند الدقيقة 12:55 بتوقيت غرينتش وهو نفسه التوقيت المحلي لمدينة نواذيبو، قال رئيس المحكمة العبارة الشهيرة: "محكمة".. ونودي بإحضار المتهم إلى القفص.
للمرة الأولى منذ اعتقاله مطلع يناير الماضي، ظهر ولد امخيطير أمام جمع من سكان نواذيبو، كان يرتدي دراعة بيضاء من النوع الفاخر وقميصاً مزركشاً بعدة ألوان مع خط أسود عريض، بدا واضحاً أنه في صحة جيدة لولا بعض الارتباك والخوف، خاصة عندما ارتجت أركان القاعة وسط صيحات الحضور: "الله أكبر.. الله أكبر !".
وقف المتهم في الجانب المخصص له قبالة رئيس المحكمة وأعضائها، كان يلتفت بشكل دائم وينظر إلى الأسفل في أحايين كثيرة والعرق يتصبب منه، إلى جانبه وقف شرطي مكلف بحراسته يرتدي الزي المدني ويضع نظارات سوداء.
في مواجهة القضاة.. بدأت فعاليات الجلسة بأسئلة موجهة من أعضاء المحكمة ورئيسها إلى المتهم، أكدوا أن الهدف منها هو استجلاء الأمر ومعرفة موقف المتهم مما ينسب إليه، عرضوا عليه المقال الذي كتبه نهاية ديسمبر الماضي تحت عنوان: "الدين والتدين ولمعلمين"، سألوه: لماذا لم يتضمن المقال الصلاة على النبي مع أنه ذكره عدة مرات ؟،
أجاب: لقد كان ذلك خطأ مطبعياً ! أصر ولد امخيطير طيلة الجلسة على أنه لم يقصد الإساءة لمقام النبي صلى الله عليه وسلم، مؤكداً أنه مسلم وينتمي لعائلة محافظة؛ وأشار إلى أن ما كتبه كان موجهاً لشريحة "البيضان" التي اتهمها باضطهاد شريحة "لمعلمين" التي ينتمي إليها، فسأله رئيس المحكمة: ولكن مقالك لم يتضمن كلمة (البيضان) ولو مرة واحدة، كيف تبرر ذلك ؟ فرد عليه أنها كانت واضحة من خلال السياق.
أخذ المقال جزء كبيراً من وقت الجلسة، ولكن أعضاء المحكمة تجاوزوه إلى تدوينات المتهم على صفحته الخاصة على موقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك، حيث عرضوا عليه تدوينات قد تدينه بالإلحاد، ومن بين هذه التدوينات تلك التي قال فيها: "أن تكون ملحداً بقلب سليم، خير من أن تكون مسلماً بقلب لئيم"؛ ولكن المتهم عاد ليؤكد أنه يقصد مجتمع "البيضان" والطريقة التي يستغل فيها الإسلام من طرف هذه الشريحة، وفق تعبيره.
أغرب الأسئلة التي طرحت على المتهم، كان سؤال رئيس المحكمة حين سأله ماذا يعني لك تاريخ (30 يونيو 2010)،
رد عليه ولد امخيطير: ذاك يتزامن مع عيد ميلادي؛ فسأله رئيس المحكمة: في هذا التاريخ بالضبط كتبت على صفحتك في الفيسبوك عبارة (قد يقول قائل: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون") ماذا تقصد بذلك ؟
بدا الارتباك على ملامح ولد امخيطير وهو يرد على القاضي بأنه لم يكن على علم آنذاك بأنه يورد آية من القرآن الكريم؛ ولكن القاضي لم يترك له فسحة للمواصلة حين قال له: "أنت وضعتها بين نبرتين، ومع ذلك لم تقل إن كانت من كلام الله أم من كلام البشر"، عاد ولد امخيطير ليؤكد عدم علمه بأنها آية من القرآن الكريم، وحول الموضوع إلى الحديث عن تهميش "لمعلمين".
التكبير والبكاء..
مع كل فقرة من كلام المتهم يوردها أحد أعضاء المحكمة، كانت ترتفع الأصوات بالتكبير، ويسمع بكاء وعويل في صفوف النسوة، أمر تجاهله رئيس المحكمة مع تنبيه بسيط في بعض المرات، غير أنه في كل مرة كان يرتبك المتهم ويتلفت للوراء نحو مصدر التكبير والبكاء، فيشير إليه رئيس المحكمة أن ينتبه ويتجاهل الحضور.
ما أثار استغراب حضور الجلسة هو عدم إنكار المتهم لما أوردته المحكمة من عبارات قالت إنه كتبها إما في مقالات أو تدوينات على الفيسبوك، فقد اعترف بأنه من كتب كل ذلك ولكنه أصر على تفسيره بأنه موجه لشريحة اجتماعية معينة، وحاول جاهداً أن يفرغه من أي معنى عقائدي أو ديني، حتى تلك العبارات التي يفهم منها استهزاء بالقرآن الكريم.
عند تمام الساعة الثالثة بعد الظهر أعلن رئيس المحكمة إيقاف الجلسة في استراحة 15 دقيقة لأداء صلاة الظهر، على أن تستأنف بأسئلة المحامين في الدفاع والإدعاء، أسئلة يترتب عليها سير أشهر محاكمة تعرفها مدينة نواذيبو.
صحراء ميديا