سيرفرف العلم السوري بألوانه الاحمر والابيض والاسود فوق السفارة السورية في الكويت التي سيعاد فتحها رسميا اليوم الاثنين، بعد اغلاق استمر عشرين شهرا توقعت خلالها الحكومة الكويتية، ودول خليجية اخرى سقوط النظام
وتسليم السفارة الى المعارضة السورية المسلحة برئاسة الائتلاف الوطني السوري، بعد ان جمدوا عضويته في الجامعة العربية وسمحوا لزعيم المعارضة في حينها (معاذ الخطيب) الجلوس على مقعدها والقاء كلمتها في قمة الدوحة العربية.
النظام لم يسقط، ولا يوجد اي مؤشرات انه سيسقط في المنظور المتوسط على الاقل، رغم الانشقاقات التي وقعت في صفوفه في بداية الازمة، سواء في الجيش او في المؤسسات السياسية والدبلوماسية، حيث قفز الكثيرون من سفينته، سواء عن قناعة، او استجابة للاغراءات المالية الضخمة، نتيجة اعتقاد راسخ، كرسته امبراطورية اعلامية غربية، وخليجية جبارة، مرفوقة بتأكيدات امريكية واسرائيلية وتركية بأن ايام النظام باتت معدودة، وان سفينته غارقة لا محالة.
لا نجادل مطلقا بأن النظام ارتكب مجازر، ويتحمل المسؤولية الاكبر عن ما حدث ويحدث في سورية، لكن الطرف الآخر في المقابل لم يكن حملا وديعا، واحتكم الى السلاح على امل التعجيل في اسقاط هذا النظام وتغييره ببديل ديمقراطي، ولكن في ظل انقلاب “الثورة” السورية الى صراع على الحكم، وصب المليارات، وآلاف الاطنان من الاسلحة في الاتجاهين،
اختلطت الاوراق، وتغيرت المعادلات، وتبدلت المفاهيم، واصبح الشعب السوري الذي تشرد منه عشرة ملايين يعيشون حاليا في العراء في ظروف معيشية ومناخية صعبة، وخسر اكثر من ثلاثمائة الف من خيرة ابنائه هو الضحية الكبرى، ويترحم نسبة كبيرة منه على الايام السابقة، بعد ان تحولت بلاده الى فوضى دموية، وميدان صراع للامم، وفقدت وحدتها الجغرافية والديمغرافية وتقدمت الهوية الطائفية على كل الهويات الاخرى الجامعة للأسف.
المعارضة السورية، مثلها مثل الشعب السوري، تعرضت لخديعة كبرى عندما صدقت الوعود الامريكية، والتطمينات العربية، والخليجية منها على وجه الخصوص، واعتقدت انها باتت على بعد ايام معدودة للتخلص من النظام الديكتاتوري القمعي حسب نصوص ادبياتها وبياناتها، واقامة الجمهورية الديمقراطية الفاضلة.
اعادة فتح السفارة السورية في الكويت اهم اعتراف علني، وعملي، بأن السياسة الخليجية في سورية انهارت، خاصة انها توازت مع انفتاح كبير على العراق حليف سورية، تمثل في فتح قنصليتين وتوقيع 46 اتفاقية تجارية مع حكومته في اطار استراتيجية كويتية جديدة بتطبيع العلاقات وتعزيزها.
الكويت عندما سحبت سفيرها من دمشق واغلقت سفارتها، وطلبت من السفير السوري العودة الى بلاده في شباط (فبراير) عام 2012، اقدمت على هذه الخطوة في اطار تنسيق خليجي مشترك ومتفق عليه (سلطنة عمان لم تلتزم وابقت سفارتها مفتوحة في دمشق)، لهذا فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو عما اذا كان قرارها هذا منفردا، ام في اطار اتفاق خليجي على اعادة فتح سفارات سورية، في جميع او معظم العواصم الخليجية؟
انه موسم الحجيج الى دمشق، فها هي تونس التي كانت اول دولة عربية تغلق سفارتها في دمشق، ويعرض رئيسها المؤقت السابق (المنصف المرزوقي) على نظيره السوري حق اللجوء السياسي، ويستضيف اول اجتماع لمنظومة اصدقاء سورية (هل ما زالت موجودة؟) تعيد فتح سفارتها، ويتبادل رئيسها الجديد “المنتخب” الباجي قائد السبسي برقيات التهاني مع نظيره السوري، ولا نستبعد ان تبدأ احجار الدومينو تتساقط الواحدة تلو الاخرى، او فتح السفارة تلو الاخرى.
اسباب عديدة ادت الى هذا التطور “غير المفاجيء” على اي حال:
اولا: ادركت الولايات المتحدة ان المعسكر الايراني السوري العراقي المدعوم من روسيا هو المنتصر “حاليا” فقررت الرهان عليه، والتعاطي معه، والاعتراف به على حساب حلفائها القدامى، وبعد ان “حلبتهم” ماليا وباعتهم اسلحة بأكثر من 150 مليار دولار.
ثانيا: صعود “الدولة الاسلامية” بقوة، وازالتها الحدود السورية العراقية، واقامة دولة مكتفية ذاتيا بالمال والسلاح، حجمها اكبر من حجم فرنسا، وجميع الدولة الخليجية مجتمعة، عدا المملكة العربية السعودية، واعتمادها التوسع الجغرافي والعقائدي كنهج واستراتيجية، على عكس كل الحركات الاسلامية الاخرى، الامر الذي بث الرعب في جميع دول المنطقة، وغير اولويات الغرب، وجعل الجميع يرون في النظام السوري حليفا مستقبليا يمكن الاعتماد عليه، والتعاون معه، وغفر كل خطاياه، ما تقدم منها وما تأخر.
ثالثا: انهيار الجامعة العربية ومصداقيتها كمظلة سياسية اقليمية، وحدوث تغيير جذري في مصر عنوانه انقلاب عسكري بقيادة الفريق اول عبد الفتاح السيسي (مشير ورئيس منتخب لاحقا) اطاح بحكم الاخوان المسلمين، والتحالف القطري التركي معهم، وجاءت عودة الليبراليين والدستوريين في تونس عبر صناديق الاقتراع، وتراجع ترويكا النهضة الثلاثية، وانهيار الاستقرار في ليبيا، وتصاعد الحرب الدموية فيها كلها عوامل غيرت المشهدين السوري والعربي تماما.
رابعا: تراجع اسعار النفط بأكثر من خمسين في المئة، وتوقعات بوصولها الى عشرين دولارا للبرميل في سنوات مقبلة، اضعفت المعسكر الخليجي وقبضته على المنطقة، وصعدت من مخاوفه في حدوث اضطرابات داخلية، سياسية واجتماعية، بعد تزايد احتمالات تخفيض الانفاق الحكومي، وفرض ضرائب على المواطنين، ورفع الدعم عن المواد الاساسية مثل المحروقات والمواد الغذائية.
خامسا: انقلاب السحر على الساحر، وعودة “الارهاب” بقوة الى دول خليجية ظلت محصنة منه لعقود، وشاهدنا هجمات تستهدف اجانب في كل من الامارات والسعودية، وظهور إعلام مواز مؤثر وفاعل لـ”الدولة الاسلامية” يحرض على اطاحة الانظمة، ويجذب نسبة كبيرة من الشباب الخليجي لاطروحاته، وتشكيله خلايا نائمة وحية بالتالي. سادسا: بروز المحور المصري الروسي الذي نشط في الاسابيع الاخيرة من اجل عقد مؤتمر حوار بين الحكومة والمعارضة في سورية للتوصل الى حل سياسي للازمة دون اي شروط مسبقة، وبمعزل عن المحور الخليجي التركي، وتجاوب معظم فصائل المعارضة السورية معه بشكل ايجابي والاستعداد للانخراط في الحوار دون شرط اسقاط النظام.
لا نستبعد ان يجلس السيد وليد المعلم وزير الخارجية السوري على مقعد سورية في الاجتماع المقبل لمؤسسة القمة العربية المقرر ان يعقد في القاهرة في الثلث الاخير من شهر اذار (مارس) المقبل، ولن نستغرب اذا كان السيد معاذ الخطيب رئيس الائتلاف الوطني السوري السابق، والسيد حسن عبد العظيم رئيس هيئة التنسيق وآخرين اعضاء في الوفد السوري يجلسون في المقاعد خلف شيخ الدبلوماسية السورية.
لم لا.. فكل شيء جائز هذه الايام، فمن كان يتوقع اتفاقا امريكيا ايرانيا بعد ان وصلت الامور الى حافة المواجهة، او من كان يتوقع هذا الصعود لـ”الدولة الاسلامية”، واطاحتها بالسيد نوري المالكي ووصول قواتها الى ابواب بغداد واربيل؟، وعودة الطائرات واكثر من خمسة آلاف جندي امريكي الى العراق، والاهم من كل ذلك، من كان يحلم بأن الرئيس بشار الاسد سيستمر في الجلوس على كرسي الحكم للعام الخامس على التوالي؟
نكتفي بهذا القدر.. ومن المؤكد ان لنا عودة لمتابعة تطورات هذا الزلزال.