بسم الله الرحمان الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد فقد تحفَّظْتُ على بضع نقاط من مقال الشيخ الفقيه محمد يسلم ولد محفوظ حول الاسترقاق، وأشكر له إقراره بمرجعية الكتاب المنزل والهدْي النبوي بإهدائه مواطن القصور في مقاله المذكور ومنها:
أولا: قوله بإباحة استرقاق الأحرار وجوازه في الإسلام كإباحة النكاح والبيع، قال الشيخ الفقيه: "فأجازه ولم يحرمه كما حرم الخمر بل نظمه كما نظم المعاملات الأخرى كالنكاح والبيع .." اهـ بلفظه.
قلت: ولا يخفى ما فيه من المغالطة والتلبيس بدليلين اثنين: أحدهما أن الله قد أباح النكاح بقوله تعالى ﴿فانكحوا﴾ونحوه، وأباح البيع بقوله تعالى ﴿وأحلّ اللهُ البيعَ﴾ ونحوه، وأباح الأكل والشُّرْبَ بقوله تعالى ﴿وكلوا واشربوا ولا تُسْرِفوا﴾ ونحوه، ولم يتنزل في تفصيل الكتاب المنزل نحو قولنا (استعبدوا) (استرقّوا) (لِتمْتلِكْ أيمانُكم)، وثانيهما أن من تفصيل الكتاب المنزل العفْوُ عما سلَفَ أي سبق تنزّلَ القرآن إذ تعامل القرآن معه كواقع غير شرعيٍّ وهو أصْل من أصول الفقه التي استنبطتُها ونتبيَّن بها دلالة قوله تعالى ﴿ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلَف﴾ النساء، وقوله تعالى ﴿وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلَف﴾، النساء، وقوله تعالى ﴿عفا اللهُ عمّا سلَف ومن عاد فينتقم الله منه﴾ المائدة، ويعني الإبقاء على زواج من تزوج بزوجة أبيه قبل تنزل التحريم، والإبقاء على زواج من جمع بين الأختين قبل تنزُّل التحريم، وجوازَ أكل المُحْرِم من صيده قبل تنزل النهي، وكذلك تعامل الإسلام مع العبيد الذين وقع استرقاقهم قبله ولكن لم يأذن بالاسترقاق من جديد وإنما أوجب تحرير الرقاب وفكّ الرقاب أما ما ملكته الأيمان في تفصيل الكتاب المنزل فلها دلالة أخرى ليست من الرق في شيء.
ثانيا: قال الشيخ الفقيه محمد يسلم ولد محفوظ: "نعم لم يوجب الاسترقاق ولم يجعل له من المنافذ إلا منفذا واحدا وهو الأسر في الجهاد من بين خيارات أخرى" اهـ بلفظه،
وأقول: لن تنسَخَ اجتهاداتُ المتون الفقهية ومألوفُ العرب القرآنَ العظيم ومنه قوله تعالى ﴿فإذا لَقِيتُم الذين كفروا فضَرْبَ الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدّوا الوثاق فإما مَنًّــا بعدُ وإما فداءً حتى تضع الحربُ أوزارها﴾ القتال، ومعاذ الله أن يخالِفَ هَدْيَ القرآن الرسولُ به الموصوف في القرآن بقوله تعالى ﴿وإنك لعلى خُلُقٍ عظيم﴾ القلم، إذ كان خُلُقُه صلى الله عليه وعلى آله وسلم القرآنَ العظيمَ، وإنّ من زعم النبيّ الأمّيَّ صلى الله عليه وسلم قد استرقَّ أسيرا بعد حرف القتال فقد أعظم الفِرْية وكذب عليه صلى الله عليه وسلم سواء جهِل أو تعمّد، ولقد أعلن هذه الكلية الشيخ أحمد مصطفى المراغي في تفسيره قال:
"قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم أنزل الله تعالى في الأسارى (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) وكان عليه عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده.
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: « بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم خيلا قِبَلَ نجْد، فجاءت برجل من بنى حنيفة، يقال له ثمامة ابن أثال، فربطوه في سارية من سوارى المسجد، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خير، إن تقتلنى تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل ما شئت، حتى كان الغد، فقال له : ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي ما قلت لك، قال: أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فقد أصبح بلدك أحب البلاد إلي وإن خيلك أخذتنى وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره رسول الله وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت، قال لا ولكن أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم .
وعن عمران بن حصين قال: أسر أصحاب رسول الله رجلا من عقيل فأوثقوه، وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب النبي ففداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف." اهـ
ثالثا: قال الشيخ الفقيه: "وإذا حصل الاسترقاق أمكن الاستمرار بحكم التوارث مع أن الجهاد ممكن في كل زمن إن توفرت شروطه وبذلك يمكن استمرار الرق بكل من السببين التوارث والجهاد" اهـ بلفظه.
قلتُ: ولا يسَعُ هذا الفقهَ غيرَ تقريرِ تجريدِ الإنسان ومنه المسلم من آدميّته ومن التكريم الذي كرَّم الله به بني آدم، ومن أخصِّ ما اختص به بنو آدم من التكريم في قوله تعالى ﴿ولقد كرَّمنا بني آدم﴾ الإسراء، صيانة ابن آدم عن البيع والشراء وتوارث ملكيته كأنه قطعة متاع أو حيوان أليفٌ، ذلك القياس الذي امتلأت به متون الفقه التي قاست العبد المملوك بالبقرة والشاة والثوب والدار تأثرا بالحضارات الجاهلية القديمة، وأتمنى على الفقهاء أن يتأملوا قوله ﴿أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفَّـى أن لا تزر وازرة وزر أخرى﴾ النجم، ويعني أن الشرع المنزل على إبراهيم وموسى قد تضمن إعلان صيانة حقوق كل مولود من جريرة والديه في الدنيا كما في الآخرة لا يلحقه منها شيء ولن ينتقل الاسترقاقُ من الأبوين أو أحدهما إلى الأبناء فإن وقع فإنما هو اعتداء آخر وقهر آخر لم ينزل به الله سلطانا.
ولم تفقهْ بعض المتون الفقهية من قوله تعالى ﴿ولقد كرّمْنا بني آدم﴾ الإسراء، غير تخصيصه بالأحرار فأخرجوا منه ملك اليمين والعبيد القاصرين العاجزين وجعلوا نسلهم وذريتهم مملوكة للسيّد وذريته من بعده أو معه.
وكذلك تضمن الكتاب المنزل على خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم تقرير ما في الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى كما في قوله ﴿ولا تكسبُ كلُّ نفْسٍ إلا عليها ولا تزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ الأنعام، وهي كليات تكررت كما في الإسراء وفاطر والزمر.
إن دِينَ الإسلام الذي جاء به النبيون لبراءٌ من بيع الإنسان، وإنما لم يتضمّن القرآنُ تكليفَ العباد بتجاهل الواقع ولو كان غير شرعي كما أقرّ لابن الزنا حقَّه في الحياة والتربية وسائر حقوق بني آدم وأقرّ للمشركين حرمة معتقداتهم ومنها الأصنام رغم عدم شرعيتها كما في قوله ﴿ولا تسُبُّوا الذين يدعون من دون الله﴾ الأنعام.
وتضمَّن تفصيلُ الكتاب المنزَّل قضَّةَ استرقاقِ يوسف صلى الله عليه وسلم وكيف انقطعت به الأسباب فبِيع بثمن بخس، وتعاملَ الصّدِّيقُ النبيّ مع الرِّقّ كأمْر واقع رغم عدم شرعيته، ولم يتضمن القرآن إعلان تحريره من الرق إذ كان استرقاقه من قبل غير شرعي.
وتضمن القرآن كذلك أن فرعون قد قهَر بني إسرائيل وجعلهم عبيدا كما في قوله ﴿وتلك نعمة تـمُنُّها عليّ أن عبّدتّ بني إسرائيل﴾ الشعراء، من كلام موسى مخاطبا فرعون، ولم يتضمن القرآن إعلانا من فرعون بتحرير بني إسرائيل من الاسترقاق إذ كان استرقاقهم من قبلُ غيرَ شرعي.
وسجل التاريخ والسيرة النبوية استرقاق زيد بن حارثة الذي انقطعت به السبل واختطفه الصعاليك فبِيع في مكة، وكذلك سلمان الفارسي الباحث عن الحقّ الذي انقطعت به السبل وهو في طريقه إلى المدينة وباعه من غدروا به فاشتراه يهودي في المدينة، وتعامل النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة مع الواقع غير الشرعي فأعان سلمان الفارسي على فداء نفسه من الرقّ.
ولم يقع في العهد النبوي غيرُ شراء العبيد لعِتقهم وتحريرهم من تملِّك الجاهليين كما اشترى الصّدّيق رضي الله عنه بلالا الحبشي لتحريره من سلطان الكافر.
رابعا: قال الشيخ الفقيه "فمنها وطء الأمة بدون عقد ودون مهر وتحديد بعدد" اهـ بلفظه.
وأقول: وقلَّدَ الشيخ الفقيه زعْمَ التراث الإسلامي أن لسيّد الأمَة أن يَدخل بها ويُـجامِعها بغير رضاها وبغير إذنها وبغير عقد نكاح، وإنما الثابت المقدس هو حكم الله ورسوله أما ما خالفه فلا يُـحتجّ به ولو قال به إجماع المجتهدين أجمعين.
ولقد صان الكتاب المنزل حقّ العبد والأمة وملك اليمين في الزواج الشرعي كما في الأدلة القطعية التالية:
أولها: قوله تعالى ﴿وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله﴾ النور، وقوله تعالى ﴿ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمِنّ ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم﴾ البقرة، ويعني ترغيب المؤمنين فيما يرغبون عنه عادة إذ قد يكرهون ما هو خير لهم وهم يميلون إلى نكاح الأبكار وإنكاح الأحرار ورغّب الكتاب المنزل في أن يُنكَح العبدُ الصالح أي يُزَوَّج بالحرة كما هو صريح المثاني معه في قوله ﴿والصالحين من عبادكم﴾ عطفا على قوله ﴿وأنكحوا الأيامى منكم﴾ وكما في قوله ﴿ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم﴾ أي أنكحوا العبدَ المؤمن أي زوِّجوه من الحرة فهو خير من الحر المشرك، والناس ترغب عن نكاح الأمَة وقد رغَّب الله فيه في قوله ﴿وإمائكم﴾ أي أنكحوهن عطفا على قوله ﴿وأنكحوا الأيامى منكم﴾ أي تزوجوا الأمَة الصالحة كما في قوله ﴿ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم﴾ أي تزوجوا الأمة المؤمنة فهي خير من الحرة المشركة.
وإنما يعني حرف النور وحرف البقرة التكليف بتزويج العبد بالحرة وبتزويج الحر بالأمَة بعقد النكاح المعلوم كالمتفق عليه في شأن الأيِـّم ليقع بالثلاثة تمثل التكليف في قوله ﴿وأنكحوا﴾ أي بِإذْنٍ ورِضًى وشهودٍ وإعلانٍ وصيغةٍ وصَداقٍ.
ثانيها: قوله تعالى ﴿فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدةً أو ما ملكت أيمانكم﴾ النساء، ويعني ﴿فإن خفتم أن لا تعدلوا﴾ فانكحوا أي تَزَوّجوا واحدةً من الحرائر بدل الأربع أو انكحوا أي تَزَوّجوا ﴿ما ملكت أيمانكم﴾ يعني من النساء عطفا على قوله ﴿فواحدةً﴾ المنصوبة بفعل انكحوا المضمر.
ثالثها: قوله تعالى ﴿قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم﴾ الأحزاب، ويعني أن الله فرض على المؤمنين في كل من الأزواج ومُلْكِ اليمين فرائضَ وأقرّ بعضُ الفقهاء فرائض الأزواج من الحرائر وأنكروا فرائض ملك اليمين، وإنما فرّق الكتاب المنزل بينهما لأن الحرة إنما تثبت حقوق نفقاتِها وإيوائِها بعقد النكاح وتنفصل بالعِدَّةِ بعد الطلاق، أما ملك اليمين فإنما أضاف عِقْدُ نِكاحِها جوازُ الاستمتاع بها أما سائر حقوقها كالنفقة والإيواء فلا يزيدها عِقد النكاح ولا يرفعها الطلاق ولا العِدّة، ولكن جهِل الناسُ دلالةَ مُلْكِ اليمين وبيّنته في معجم معاني كلمات القرآن وحروفه ومضمراته.
رابعها: قوله تعالى ﴿ومن لم يستطع منكم طَولا أن يَنكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكِحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورَهن بالمعروف﴾ النساء، ويعني إرشاد الحر المؤمن العاجز عن تكاليف نكاح الحرة إلى نكاح الأمة واشترط لإيقاعه شرطيْن اثنين هما أولا: إذْنُ أهلهن، وثانيا: دفعُ صَداقِها إليها هي لا على سيّدها أو غيره أي هو الزواج بعِقد تماما كالحرَّة ليقع إحصانُـها كما في قوله ﴿فإذا أُحصِنّ﴾أي بالزواج.
قلتُ: إن قوله تعالى ﴿فانكحوهن بإذن أهلهنّ﴾ النساء، في وصف الأمة لمن المثاني مع قوله تعالى ﴿ولِكلٍّ جعلنا مواليَ مما ترك الوالدان والأقربون﴾ النساء، أي لكل واحدٍ من بني آدم موالي لهم الولاية عليه من والديه وأقاربه، وأخرج الفقهاء اجتهادا منهم الأمَةَ والعبدَ ومُلْكَ اليمين من عموم الآية بغير دليل وإنما قياسا منهم إذ يُسَوُّون العبد والأمَةَ بالمتاع وبهيمة الأنعام وهو قياس لا يطّردُ.
خامسها: قال الشيخ الفقيه "جواز نكاح الحر للأمة عند فقد الطول لعلة أن ولده سيكون رقيقا بخلاف ولد السيد من أمته فهو حر لذلك لم يجز زواج الحر للأمة إلا في حالة الضرورة اهـ بلفظه محل الغرض منه.
قلتُ: وتأثّر بالمتون الفقهية التي تجاهلت قوله تعالى ﴿ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله﴾ الأحزاب، تجاهلا ظاهرا باعتماد ابن الحرِّ من الأمة عبدا كأمِّه الأمَة، مُدْرِجين في دينِ الله أن اللهَ شرع استرقاق النطفة في ظهر أبيها أو بطن أمها ولا يتأتّى الاستدلال عليه في الكتاب المنزل ولا في الهَدْيِ النبوي قبل إثبات النسْخ في قوله تعالى ﴿ولا تكسبُ كلُّ نفْسٍ إلا عليها ولا تزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ الأنعام.
يتواصل
الحسن محمد ماديك
متخصص في تحرير طرق القراءات العشر الكبرى
مدير معهد دراسات المصاحف والقراءات والتفسير في موريتانيا
صاحب مدرسة في التفسير والقراءات وفقه المرحلة