لم تكن الجريمة البشعة التي راحت ضحيتها الطفلة زينب بالجريمة العادية، ولذلك فإن التحقيق في هذه الجريمة يجب أن لا يكون تحقيقا عاديا، ويجب أن لا يتوقف هذا التحقيق عند المجرمين الثلاثة الذين تولوا تنفيذ الجريمة بشكل مباشر، وإنما يجب أن يمتد ليشمل جهات أخرى تتحمل جزءا كبيرا
من المسؤولية، وذلك باعتبار أنها قد شاركت بشكل أو بآخر في جريمة عرفات.
إن هناك جهات عديدة شاركت في جريمة عرفات، بعض تلك الجهات تولى التنفيذ المباشر للجريمة، وأقصد هنا المجرمين الثلاثة الذين تم إلقاء القبض عليهم، والذين اعترفوا فيما بعد بارتكابهم للجريمة، هؤلاء الثلاثة يجب أن يعاقبوا على جريمتهم البشعة، وعلينا جميعا أن نضغط، وأن نواصل الضغط، إلى ينالوا ما يستحقون من عقاب. ولكن، وفي المقابل، فإنه عليننا أن نعترف بأن هناك جهات أخرى شاركت بشكل غير مباشر في هذه الجريمة، لا يمكن عقابها على مشاركتها لأن القانون لم يحدد لها أي عقوبة. هذه الجهات الأخيرة علينا أن نتحدث ـ وبقوة ـ عن مسؤوليتها في الجريمة، وذلك هو أقل ما يمكننا فعله ما دام ليس بإمكاننا أن نعاقبها على مشاركتها في تلك الجريمة البشعة.
ومن بين الجهات التي شاركت في هذه الجريمة بشكل غير مباشر يمكن أن نذكر جهتين كبيرتين، وهما السلطة والمجتمع:
أولا : السلطة: وهذه شاركت في جريمة عرفات من خلال عدة أوجه لعل من أبرزها:
1 ـ تهميش قطاع الشرطة، وتوجيه نسبة هامة من موارد وإمكانيات هذا القطاع المحدودة أصلا إلى قضايا أخرى لا أهمية لها بالنسبة لأمن البلاد، كالتجسس على السياسيين، والعمل على تفكيك أحزابهم، والانشغال بالتنكيل بالمحتجين السلميين من أصحاب المطالب المشروعة بدلا من الانشغال بالمجرمين، ففي الوقت الذي كان فيه بعض المجرمين يرتكبون جريمة عرفات البشعة، كانت بعض عناصر الشرطة منشغلة بتفكيك اعتصام "أنا علمي"، وبالتنكيل بالمشاركين في هذا الاعتصام السلمي. فلو أن السلطة قامت بتوجيه موارد و إمكانيات الشرطة إلى الوجهة الصحيحة، أي إلى متابعة المجرمين وإلى تفكيك شبكاتهم الإجرامية، بدلا من متابعة السياسيين وتفكيك أحزابهم، لكانت البلاد أكثر أمنا مما هي عليه الآن.
2 ـ غياب أي إستراتيجية واضحة المعالم لدى السلطة القائمة لمحاربة الجريمة، وعدم اعتبار الجريمة في الداخل من المخاطر الكبيرة التي تهدد بلادنا.لقد حققت السلطة القائمة نجاحات ملحوظة على مستوى مكافحة الإرهاب، ولكنها فشلت فشلا ذريعا في محاربة الجريمة الداخلية، وفي المحصلة النهائية فإن المكاسب التي حققتها السلطة القائمة في مجال مكافحة الإرهاب قد تبخرت بسبب الفشل الملحوظ في مكافحة الجريمة الداخلية . لقد تراجع الشعور بالأمن لدى المواطن الموريتاني تراجعا ملحوظا في العهد الحالي، وذلك رغم ما تحقق من مكاسب في مجال مكافحة الإرهاب، لأن ما تحقق على هذا المستوى قد صاحبه تطور مقلق في نوعية الجرائم الداخلية، وكذلك في ارتفاع معدلها.
3 ـ وإذا ما تحدثنا عن السلطة القائمة باعتبارها مجموعة من الوزارات والقطاعات المختلفة، فإنه يمكننا أن نقول بأن من بين القطاعات والوزارات التي تتحمل مسؤولية أكبر في الانفلات الأمني:
ـ قطاع التعليم: لقد فقدت المدرسة دورها التربوي والتعليمي، وتحولت في كثير من الأحيان إلى مؤسسة تقوم بتنشئة المجرمين بدلا من تنشئة وتكوين مواطنين صالحين.
ـ قطاع الشرطة والقضاء: إن نسبة كبيرة من الجرائم التي تحدث اليوم هي جرائم يرتكبها أصحاب سوابق كان من المفترض بهم أن يكونوا داخل السجون بدلا من تركهم أحرارا ليرتكبوا المزيد من الجرائم، وإن المسؤول الأول عن هذا الوضع الغريب هو قطاع الشرطة والقضاء.
وإذا ما عدنا إلى جريمة عرفات فسنجد بأن مرتكبيها هم أصحاب سوابق كان من المفترض بهم بأن يكونوا لحظة ارتكاب الجريمة داخل السجن. فمن ذا الذي يتحمل مسؤولية وجودهم خارج السجن؟ ومن ذا الذي أطلق سراحهم، وأتاح لهم بالتالي الفرصة ليغتصبوا ويحرقوا ويقتلوا الطفلة زينب؟ يضاف إلى ذلك أن المجرمين الثلاثة كان لهم وكرهم المعروف في المنطقة، وكانوا أيضا معروفين في الحي، ولقد حرق المجرمون الثلاثة الطفلة زينب لأنها تعرفت عليهم، فلماذا تركتهم الشرطة أحرارا يهددون أمن الحي؟ بل ولماذا تترك الشرطة غيرهم من عتاة المجرمين أحرارا يهددون أمن المواطنين في عرفات وفي غيره من مقاطعات العاصمة وبولاياتها الثلاث، وذلك رغم أن ساكنة كل حي من أحياء نواكشوط أصبحت اليوم تعرف العديد من المجرمين في حيها، وتراهم يبطشون ويهددون أمن الناس، ودون أن تهتم الشرطة بأمرهم.
ـ قطاع التوجيه الإسلامي والإعلام الرسمي: إن هذين القطاعين الهامين لم يلعبا دورهما في محاربة الجريمة، وبذلك فهما من المشاركين الغير مباشرين في جريمة عرفات. لم نسمع في مساجدنا خطبا قوية عن تفشي الجريمة، ولا عن الانفلات الأمني، ولم نسمع عن ندوة تنظمها وزارة التوجيه الإسلامي في هذا المجال، أما فيما يخص الإعلام الرسمي فمن المعروف بأنه كثيرا ما ينشغل عن القضايا التي تهم المواطن بالحديث عن القفزات النوعية التي حققتها السلطة القائمة في مختلف المجالات بما في ذلك ما تحقق على مستوى الأمن الذي شهد انقلانا غير مسبوق!!
ثانيا : المجتمع : لا شك بأن المجتمع الموريتاني قد شارك هو الآخر، وبشكل غير مباشر في جريمة عرفات وفيما سبقها من جرائم اغتصاب.
إن ردود الأفعال الخجولة للمجتمع الموريتاني، والتي تصل في بعض الأحيان إلى عدم الاكتراث بهذه الجرائم البشعة هي التي شجعت المجرمين على ارتكاب المزيد من الجرائم، وهي التي شجعت أيضا السلطة القائمة على التساهل في معاقبة المجرمين، فلو أن الشعب الموريتاني خرج عن بكرة أبيه في احتجاجات قوية بعد جريمة اغتصاب بندا أو بعد جريمة اغتصاب خدي توري لما تكررت مثل هذه الجرائم. لقد شاركتُ في العديد من الوقفات التي أعقبت جريمة عرفات، ولقد صدمتُ من قلة الأعداد التي شاركت في تلك الوقفات. أيعقل أن تغتصب وأن تحرق وأن تقتل طفلة لم تكمل عقدها الأول في حي شعبي، وفي وضح النهار، وهي في طريقها من منزل أهلها إلى المحظرة ومع ذلك فلا يخرج من المحتجين إلا العشرات من الناس؟
أيعقل أن يصل عدم الاكتراث إلى هذا الحد؟
إن ما على كل أسرة موريتانية أن تعرفه هو أن ما تعرضت له الطفلة زينب يمكن أن تتعرض له أي طفلة صغيرة أخرى تسكن في العاصمة، وتخرج في كل يوم من بيت أهلها إلى المدرسة، فلماذا لم تستشعر الأمهات في العاصمة بحجم المخاطر التي تهدد بناتهن؟ ولماذا لم نسمع عن مسيرة أو وقفة واحدة للأمهات للتنديد بجريمة عرفات؟
فيا أيها الآباء، ويا أيتها الأمهات: واصلوا عدم اكتراثكم، ولكن عليكم أن تعلموا جميعا بأن بيوتكم ليست مؤمنة ضد هذا النوع البشع من الجرائم.
حفظ الله موريتانيا..