الخوف من الأتراك / محمد فال ولد الدين

اثنين, 2015-01-05 15:17

في ربيع عام 2001، قابلتُ عجوزا أميركية في عَقدها الثامن في إحدى ولايات الوسط الغربي الأميركي. وما إن فاوضتُها الحديثَ حتى أخبرتْني عن أن آخر عطلة لها كانت في بلاد الترك.

ثم صعقتني الحيزبونُ عندما استرسلتْ قائلةً: “قضيتُ أسبوعين في تركيا لكني كرهتها، فهي مليئة بالتشدد والتطرف، وللنساء شاطئ خاص بهن بعيد عن الرجال، وإذا قبض على رجل وامرأة معاً يرجمان حتى الموت، لقد نجوتُ بجلدي!..فالبلد مليء بالتطرف الإسلامي”.

ورغم أن صديقي الذي كان معي حوّل القصةَ إلى نكتة قائلا: “هذا يعني أنها كانت تعلم من نفسها أنها عجوز سَوْء!”، إلا أن القصة ظلت عالقة بذاكرتي مثقِلةً إياي بأسئلة حَيْرى.

لم أعرف يومها أين أضع كلام العجوز. فالصورة التقليدية التي كانت في ذهني حينها أن تركيا بلد العلمانية المتوحشة والكمالية الغالية وحظر الحجاب ومناجزة الإسلام السائد.

وكنت أجهل جانبا آخر بدا لي لاحقا مربطَ الفرس في نظرة الحيزبون الأميركية لتركيا. ذالكم هو الذاكرة الغربية المترعةُ خوفاً من الأتراك.

يجهل كثيرون في العالم الإسلامي وقع كلمة “تركيٍ” في الخيال الغربي. فالكلمة مثقلة بتاريخ ممتد من الصراع تعجز الذاكرة الأوربية عن نسيانه أو التعالي عليه.

فقد أصبح الأتراك غولا في المخيلة الأوروبية منذ بروزهم على المسرح الإسلامي قوة عسكرية لا تهزم، ثم عزز من ذلك حضورهم لعدة قرون قوة عسكرية تهدد الشطآن الأوربية.

هذا الخوف يفسر التوجس الغربي من أول خروج تركي على التبعية للغرب. فلعلكم تذكرون جيدا عناوين الصحافة الغربية بعد مناظرة دافوس، وبداية تعبير حزب العدالة والتنمية عن تعاطفه مع القضية الفلسطينية إبان أزمة أسطول الحرية في يونيو 2010.

فقد تنادت معظم الصحف الغربية السيارة على صياغة عناوينها بكلمات متشابهة من قبيل “الخطر التركي” و”النسر التركي” “والمارد العثماني”.

فرغم أن القوم ظلوا طيلة ثمانين عاما يتنحنثون في محاريب الغرب متوسلين كي يكونوا ذنبا، ومنكرين لانتمائهم الثقافي، وجاحدين لتميزهم الحضاري، فقد رجع الأوربيون في غداة واحدة إلى كهوف التاريخ يستحضرون رايات العثمانيين، ويتذكرون قضايا الأرمن والأقلية اليوناني.

لقد تبخر كل التقارب عند أول هزة.

* التاريخ الحيّ:

إن من يقرأ تاريخ العلاقة بين تركيا- باعتبارها رأس حربة المسلمين في التاريخ القريب- وبين أوروبا يمكن أن يفهم هوس الإعلام الغربي هذه الأيام بأحداث تركيا، وسر الهلع الأوربي من أي مخلب اقتصادي ينمو في بلاد الأستانة.

إذ يعترف المستشرق الصهيوني العجوز برنارد لويس-وهو مَن هو انحيازا لفضائه الثقافي- أن الأوربيين رغم علاقتهم الطيبة ظاهريا بتركيا، فإنهم يحتفظون بمخزون تاريخي ضخم من عدم الثقة والخوف من الأتراك. فكلمة “تركي” تحتفظ بشحنة خطرة في الخيال الأوروبي حيث ما زالت تعني في المخيلة الجمعية للقوم ذلك الإنسان الغازي المحتل.

ويضيف لويس أن أحداثا كبرى حددت طبيعة العلاقة بين الأتراك والأوربيين مثل احتلال القسطنطينية وتحويل كنيسة أياصوفيا إلى مسجد، وحصار فيينا عام 1683، الأمر الذي جعل “النساء الأوربيات في أقاصى شمال أوربا )آيسلاند) حتى وقت قريب يتضرعن إلى الله في صوامعهن أن يحميهن من الإرهاب التركي.”

بل من الطرائف أن الإنكليز كانوا يصفون من يعتنق الإسلام بأنه “تحوّل تركياً”، والأشهر في هذا المضمار مسرحية روبرت دابورن التي كتب عام 1612 تحت نفس العنوان : (A Christian Turn’d Turk)

إن من يظن التاريخ ليس جزءًا من الحاضر واهم، ومن ينكر أن الحاضر تجلّ للماضي جاحد. لذلك لم أتفاجأ من استيقاظ الخوف الغربي من الأتراك منذ بدأت نهضتهم المتكئة على المبادئ الديمقراطية والنهضة الاقتصادية على يد حزب العدالة والتنمية.

* مظاهرات تقسيم:

ما إن تجمهر آلاف الأتراك في ميدان تقسيم، حتى استُنفِرَ الإعلامُ الغربي بطريقة هستيرية. فظهرت التحليلات المبالغة وسُكَّتْ المصطلحاتُ المنفعلة بما شهدته الساحات العربية خلال العاميْن الماضيين. وقع هذا الإسقاط دون أي تفكير في الفارق ما بين مبارك وأردوغان، وبين حزب العدالة والتنمية واللجان الثورية في ليبيا، وبين منجزات كلا الفريقين.

هذا التهليل الغربي يرجع في نظري إلى الهوس الغربي بكبوة تعيد تركيا إلى حيزها الاقتصادي الضيق المانعِ لأبنائها من جنوح الخيال وارتياد آفاق المجد بحثا عن مكان بين الأمم القوية.

إن مظاهرات تقسيم تمظهر لحالات ثلاث:

الأولى: أن مجموعة من الإسطنبوليين المعروفين بولعهم بالأشجار احتجوا –وحُقَّ لهم- على تغيير معلم معيّن لوضع مجمع إسمنتي مكانه. وهذه ثقافة تركية راسخة، إذ يعرف المتابعون للشأن التركي أن بلدية إسطنبول تصور الأشجار بشكل سنوي في جنبات المدينة حرصا على الوجه الوضاح للمدينة.

الثانية: أن مجموعة من العلمانيين الموْتُورِين المتشبثين بفكرٍ مدبرٍ، وصورٍ ذهنية بالية انتهت صلاحيتها ثقافيا، وجدوا الفرصةَ في المظاهرات فركبوا الموجة للتعبير عن مشاعر مختلطة. منها انزعاجهم من تغول حضور الإسلاميين وتغير المجتمع التركي أمام أعينهم في اتجاه يخالف ما يؤمنون به.

الثالثة: صدى معارك سوريا. فالأقلية العلوية التي خرجت منذ بداية الثورة في مظاهرات مؤيدة لنظام بشار، استجمعت أمرها وانتهزت فرصة المظاهرات ودخلت ميدان تقسيم بقوة. لذلك من الطبيعي جدا أن يكون مفجر الريحانية يوم 11 من مايو الماضي علويا مرتبطا بنظام الأسد، اعتُقل وهو يحاول التسلل إلى الداخل السوري قبل أيام.

لقد ظلت القضية العلوية حاضرة داخل تركيا وإن كان حزب العدالة –الذي يثور عليه العلويون الآن- من أكثر الأحزاب التي بذلت جهودا للتعاطي معهم من خلال “الحوار المفتوح” الذي انطلق منذ فترة.

لكن اتضح –للأسف- أن القوم طائفيون وإن عبدوا أتاتورك، كما اتضح أن الملالي طائفيون وإن حملوا رايات الحسين واعتموا السواد.

لقد هُزم علمانيو تركيا هزيمة ثقافية مدوية أولا، ثم لفظتهم صناديق الاقتراع بعنف ثانيا، ثم بدأت دوائر القضاء والجيش تتحرر منهم منهم رويدا رويدا، فجن جنونهم.

ثم دخل العلويون المنفعلون بالقصة السورية على الخط. ثم قرر الغربيون -أعداء تركيا التاريخيون- انتهابَ اللحظةِ واهتبال الفرصة من خلال استفزاز أردوغان بطرق مختلفة بتشويهه ووصمه بالدكتاتورية وبالقامع للمتظاهرين.

ذاك مربط الفرس في أحداث تقسيم، وغيره عوارض ينشغل بها غير المتأمل.

إن خروج رجل مثل “جون مكين” واصفا أردوغان بأنه “ديكتاتور أكثر مما هو رئيس وزراء”، وهو العالم بأن أردوغان رئيس وزراء منتخب بأكبر أغلبية في تاريخ تركيا، أمر دال.

كما يعلم “مكين” أن أردوغان هو الشخصية التي تتمتع بأكبر شعبية على أديم تركيا منذ أيام أبي الأتراك أتاتورك. وقلْ الأمر نفسه عن أحاديث كيري و”قلقه من استخدام الشرطة للعنف المبالغ فيه”.

لا تُستغرب تعليقات المسؤولين الغربيين على مثل هذه المظاهرات لو كانت ضد مستبد متخلف قادم بدبابة، ويُغرقُ شعبَه في مستنقع الاستبداد والتخلف الاقتصادي والعلمي.

أما وهي ضد حزب لا يتمارى اثنان في صناعته لمعجزة اقتصادية متوازية مع إصلاحات ديمقراطية جبارة فهذا ما لا يستساغ من دول ديمقراطية إلا في سياق المنافسة الحضارية المتجذرة.

* الخوف من “تعملق” تركيا لاحقا:

إن مما يزعج الغربيين أن تركيا هي الوحيدة التي تنمو في القارة الأوروبية. فالاقتصاد التركي هو السابع عشر عالميا، وهو أسرع اقتصاد أوروبي نموا إضافة إلى أن الجيش التركي هو ثاني أكبر جيش في العالم – من الناحية العددية- بعد الولايات المتحدة الأميركية. أضف إلى ذلك أن تركيا تمنو عدديا بخلاف جيرانها الأوروبيين الآفلين.

لقد انفتحت تركيا خلال العقد الماضي ومدتها جسورا عالمية كثيرة متكئة على جناحي: التاريخ والاقتصاد. فقد افتتحت أكثر 30 سفارة في أميركا اللاتينية وإفريقيا خلال السنوات الماضية، وهي عوامل تضيف قوة وصلابة للتجربة التركية.

ومن يومها بدأ الأوربيون مسيرتهم لمحاولة قص مخالب منافسهم التاريخي.

بقي أن نشير إلى أن لأوردغان أخطاءَه أيضا:

لم يكن موفقا في أوصافه التي أطلق على المتظاهرين، ولا في مراهنته على خروج شعبيته الطاغية.

فرغم أن أوصافه قد تكون صحيحة صحة كثرة شعبيته، إلا أن للإعلام وطبيعة العصر والبث المبشار للصغائر منطقا آخر. كان ينبغي عليه أن يكون أكثر تعقلا في خطاباته، وتواضعاً في تعليقاته حتى لا يزود خصومه بسلاح يستخدمونه ضده.

وإذا كان الجاحظ يذكر في رسالة الترك أن للفارس التركي أربعة أعين: ثنتان من الأمام وثنتان من الخلف، فإن أردوغان اليوم أحوج ما يكون لتلك الأعين كي يدير علاقاته الداخلية والخارجية بذكاء، دون ترك فرصة يدخل منه منافسوه التاريخيون ليجهضوا نهضة بلاده. فتركيا تنهض، بينما تئن غريمتها اليونان: “رجل أوروبا المريض” هذه المرة.

بقي سؤال: تُرى، ما ذا ستقول الحيزبون الأميركية إذا زارت بلاد الأستانة أيامَ الناس هذه؟