تصدر مجموعة البنك الدولي تقريرا سنويا يقيس مناخ الاستثمار التجاري عبر دول المعمورة ويبين درجة جذب وطرد المشاريع الخاصة في مختلف البلدان ولذلك يسارع مختلف الفاعلين الاقتصاديين إلى اقتناء تقرير (doing business) الذي يشكل عاملا مهما يحدد وجهة الاستثمارات وحركتها حول العالم، كما تسارع الحكومات إلى مطالعة التقرير ليكون مرتكزا لتوجهاتها وسياساتها الإصلاحية وتتخذ منه المعارضة ورقة عمل ذات حجية.
وقد نشر مؤخرا تقرير ممارسة أنشطة الأعمال بالنسبة لسنة 2015، وبحسب التقرير "الطازج" المتاح على مواقع مجموعة البنك الدولي في نسخته الإنجليزية الأصلية، جاءت موريتانيا في الرتبة 176 من أصل 189 دولة، متخلفة عن كل الدول المجاورة: المغرب الذي تقدم إلى الرتبة 71 ومالي التي تقدمت إلى الرتبة 146 والجزائر التي تقدمت إلى الرتبة 154 والسنغال الذي تقدم إلى الرتبة 161..
أما موريتانيا فقد تراجعت حتى عن مركزها في سنة 2014 حيث كانت في الرتبة 173 وحصلت (سنة 2015) على معدل هزيل ونسبة لا تتجاوز 44,21%.
وبالنظر لهذا الرسوب الضار بمصالح الدولة وبسمعتها فمن واجب السلطات العامة أن تعمل على تحسين درجة البلاد، بدل التفنن في رسم اللوحات الوردية، كما أن من واجب المواطنين المطلعين المساهمة في الإنارة والإمداد بالمعلومات والأفكار التي يمكن أن تفيد الوطن وفي هذا الإطار تأتي هذه المراجعة التي أثير فيها المواد التي يتعين أن تسترعي اهتماما خاصا ممن يهمهم الأمر.
فبالرجوع لكشف البنك الدولي المتعلق بموريتانيا يتبين أن أسوأ نتائجها كانت في مادة تسوية حالات الإعسار (Resolving Insolvency) حيث جاءت موريتانيا في المرتبة الأخيرة عالميا 189/189 وهو ما يوجب على الجهات المختصة مراجعة إجراءات تسوية ملفات الإعسار بهدف تبسيطها وتسريعها..
ونلاحظ عمليا أن تعاطي السلطات النقدية والقضائية مع أزمة مصرف MAURISBANK ينبئ عن ضعف شديد في هذه المادة لأن ملاحظة إعسار البنك التجاري يجب أن يستتبعه اتخاذ بنك البنوك (البنك المركزي) للإجراءات الكفيلة بإعطاء كل ذي حق حقه في أسرع وقت عن طريق تعيين مسير وإمداده بوسائل الدفع في انتظار إجراءات التصفية الرضائية أو القضائية للأصول المودعة.. أما البدء بإجراء إحالة الملف لقضاء يتميز بالبطء الشديد فلا قائل بانسجامه مع المصلحة العامة.
وبدلا من أن تتلافى السلطات القضائية ما أخلت به سابقتها فقد زاد القضاة الطين بلة عندما حركت النيابة الدعوى العمومية التي ترتب عليها حبس الأشخاص الذين كانوا يقومون على إدارة المصرف وهو إجراء يرتب أثرا قانونيا بالغ الضرر، حيث سيتوقف النظر في أمر الحقوق والمطالبات المدنية إلى حين.
فمن منظور القانون الموريتاني يعلق البت في المطالبات المدنية والتجارية إلى أن يبت نهائيا في الدعوى العمومية إذا كانت قد حركت (المادة 4 من قانون الإجراءات الجنائية)، والبت نهائيا في الدعاوى العمومية قد يستغرق عدة سنوات، يتوجب خلالها على ذوي الحقوق الانتظار ومنهم من لا يطيقه.
كما يتعين الالتفات إلى مادة إنفاذ العقود (Enforcing Contracts) وتعني، من بين ما تعنيه، في رطانة البنك الدولي مدى كفاءة الجهاز القضائي في الفصل في النزاعات التجارية وما يتطلبه ذلك من إجراءات ووقت وتكلفة يتم تقديرها.. ولئن حافظت موريتانيا على درجتها في هذه المادة على مدى سنتي 2014 و2015 إلا أن معايير المؤشر تعتبر من قبيل الترف أمام العدالة الموريتانية التي تعاني اختلالات جمة كثيرا ما أدت للطعن في استقلاليتها ومدى جدوائيتها (تناولتها باستفاضة في كتابي: مباحث في سبيل العدل).
ويتبين أن موريتانيا قد تحسنت في مادة واحدة هي بدء النشاط التجاري إلا أنها تحتاج لتحسين درجاتها في تسهيل استصدار تراخيص البناء وتوفير الكهرباء وتسجيل الملكية وتسهيل القروض التجارية ودفع الضرائب والتجارة عبر الحدود، وقبل كل ذلك يتعين على السلطات أن تبذل جهدا في الحفاظ على عرض الدولة وسمعتها بتجنب تدجين القضاء وعدم استخدام إدارات الدولة للضغط على المغضوب عليهم.
وربما كان ارتجال القرارات أحد الأسباب الرئيسية لتخلف موريتانيا فأي خطوة تتخذها الدولة يجب أن تسبقها دراسة متأنية من المختصين: في سنة 2012، مثلا أصدرت السلطة التنفيذية مرسوما متعسفا يجرم تعاطي الأكياس البلاستيكية نشر عبر أثير الإذاعة والتلفزيون وفي فاتح أكتوبر 2013 نشرت مقالا تحت عنوان: القانون والبلاستيك في موريتانيا (نشر على موقع الأخبار) بينت فيه عدم جواز التجريم بمرسوم وأن التجريم لا يكون إلا بقانون وبررت ذلك.. لم أجد تعليقا على الأمر، إلى أن تفاجأت، بمصادقة مجلس الوزراء خلال اجتماعه المنعقد يوم 15 يناير 2015، على مشروع قانون يتعلق بتجريم صناعة واستيراد وتوزيع وتسويق واستخدام الأكياس والأغلفة البلاستيكية المرنة.. حينها استحضرت أن مقالي ربما أفاد فأدنيت الكراس آملا أن يكون الإجراء مؤذنا ببداية صحوة قانونية لدى السلطة التنفيذية.