الحوار في ميزان المراقبين

سبت, 2015-02-07 13:22
محمد الأمين ولد الكتاب

اعتبارات عامة 

إن متابعة تطورات أي مشهد سياسي و تقييم سلوك الفاعلين الاجتماعيين و الاقتصاديين و السياسيين  الذين يتفاعلون داخله،  و استبطان الواقع القائم ، بهدف استشراف المستقبل المحتمل، و تصور ملامحه، كل ذلك يستوجب من الشخصيات الجمعوية المستقلة المراقبة ، التي نتماها معها، إن تتوفر على خصال أساسية، لعل من أهمها الموضوعية ، و النزاهة الفكرية ، و الابتعاد قدر الإمكان عن الاصطفاف السياسي و الانخراط الإيديولوجي و اليقينية ، التي لا مجال معها لاعتبار ا لنسبية كأسلوب في التفكير و مقاربة الأحداث. ذلك أن  صدقية و جدية تقييم المراقبين المحايدين للأمور إنما  تقاسان بدرجة تحليهم بهذه الخصال و المميزات.  

و من هذا المنظور  و من منطلق وجاهة تعدد الرؤى  و استحالة احتكار الحقيقة  و الإنفراد بسداد الرأي من طرف أي كان،فإننا سنعمد إلى تقييم الحوارات الماضية  التي نظمت  في البلاد، مع تقديم رؤيتنا لتطورات الأوضاع كمراقبين  يقفون على مسافة متساوية  من كافة الفرقاء  المتواجدين على المسرح السياسي الوطني.

 و سوف نحاول باقتضاب ، استشراف مستقبل الحوار المرتقب في البلاد ، ارتكازا على المعطيات الموجودة ، و المتغيرات المحتملة ، و العوامل  الموضوعية المؤثرة،  وصولا  إلى استخلاص بعض النتائج  و تقديم بعض المقترحات حول طرائق و سبل  تقريب وجهات نظر الفرقاء السياسيين المتفاعلين، و ذلك صيانة  للتجربة الديمقراطية الموريتانية و خدمة للمصلحة العامة للبلاد.    

  تقييم الحوارات الماضية 

إثر الإطاحة سنة 2008 بالنظام المنتخب ديمقراطيا ، وفي أعقاب  الأزمة التي قادت إلى سقوطه  و استمرت في التفاقم  بعد قيام نظام جديد  مكانه ، سماه البعض نظاما انقلابيا وعارضه ، ووصفه البعض الآخر  بحركة تصحيح مرحب بها وآزره، منذ ذلك الوقت أقول  ، تم بالبلاد تنظيم اربعة حوارات  ، بهدف  تجاوز التقاطب الشديد القائم بين الفرقاء السياسيين المتواجدين على المشهد الوطني، و الوصول إلى تفاهمات  تمكن من تخطي أزمة الثقة الموجودة بين النظام و أحزاب الموالاة الملتفة حوله ، و التي اصبحت تشكل الأغلبية الرآسية  من جهة ، و  بين الأحزاب المعارضة ذات  المشارب و التوجهات المختلفة  التي تناوؤه  باساليب متباينة  وبدافع أهداف مختلفة ، من جهة أخرى.

 و لم توفق الطبقة السياسية  الموريتانية إلى الخروج من هذه الحوارات ، بنتائج  توافقية ترضي كل الفرقاء  ، و تفضي إلى تخطي أزمة الثقة بين النظام و ألمعارضة ، و إيجاد صيغ مقبولة لدى الأطراف المنخرطة في اللعبة السياسية ، تسمح بإفساح المجال للجميع  ، للمساهمة في إدارة شؤون البلاد. و هكذا فإن حوار داكار الذي اضطرت الطبقة السياسية الموريتانية  إلى قبول النتائج التي أسفر عنها تحت ضعط العديد من الهيآت الإقليمية و الدولية، و إن كان قد أفضى إلى تنظيم انتخابات رآسية و برلمانية و بلدية  شارك فيها كل الطيف السياسي الوطني ، فإنه  مع ذلك ، لم يؤد  إلى تجاوز التنافر و التلاغي بين الفرقاء و الانسداد السياسي و الإحتقان الاجتماعي المصاحب له. ولذلك لا يمكن اعتباره حوارا ناجحا بكل معاني الكلمة. ولعل مرد ذلك أسا سا إلى :

أ   شرذ مة الطيف السياسي و تضارب مصالح التشكيلات السياسية الموجودة على الساحة.

ب  اعتماد المزاجية في تقييم الأحداث و الميل إلى شخصنة الأمور  في تحديد المواقف.

ج   استحكام ثقافة الإستخفا ف بالمعارضة  لدى كل الأحكام التي تعاقبت على البلاد  منذ مجيء العسكر ، زيادة على عدم تورع المعارضة  هي الأخرى في بعض الأحيان عن توجيه شتائم غير ضرورية  لراس النظام، ما يخلق عداوات متجذرة  بين الجانبين ، يصعب  تخطيها و التجا وز عننها.

 د   عدم تغليب المصالح العليا للبلاد على المصالح السياسية الضيقة لدى العديد من الأحزاب المعارضة  و أحزاب الأغلبية الملتفة حول النظام على حد سواء.

أما الحوار الثاني  الذي تم تنظيمه  ، فهو حوار2011 و هذا الحوار رغم أنه قد تمت مقاطعته من قوى المعارضة ذات الثقل الكبير في البلاد، فإنه قد حقق بعض النجاحات و تمخض عن نتائج إيجابية  تمثلت اساسا في تعديلات دستورية ، كان من أهمها :

زيادة عدد النواب في البرلمانتجريم الإنقلابات العسكريةإبعاد العسكر عن السياسةدسترة تجريم العبوديةانشاء اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات

و لا ريب أن هذه مكاسب هامة   جديرة بالتنويه ، كما أنها تثبت أن إصغاء النظام إلى مطالب المعارضة و قيامه بتنازلات  استجابة لرغباتها لا ينتقص من هيبته  ولا يشكل مساسا بسلطته  و لا يمثل خطرا على كيانه.

بل يزيد من صدقيته  لدى الرأي العام المحلي و الدولي و يزيد من تقوية و تماسك الجبهة الداخلية الوطنية.

  وبعد هذا الحوار الذي يمكن نعته بالإيجابي، صير إلى تنظيم حوارين اثنين آخرين، أحدهما في اكتوبر 2013 و الثاني  في منتصف 2014. و هذان الحواران لم يسفرا ، مع الأسف ، عن نتائج إيجابية تذكر.

بل لم تتمكن الأطراف  المتحاورة المتمثلة في النظام و احزاب الموالاة من ناحية ،  و مختلف أحزاب المعارضة من ناحية أخرى، لم تتمكن هذه الأطراف  من إحراز اي تقدم  بخصوص القضايا التي طرحت للنقاش و المتصلة بالإصلاحات الدستورية ، و بتحديد شروط و ظروف العديد من الاستحقاقات الوطنية. 

و يرجع الإخفاق في هذين الحوارين إلى فقدان الثقة بين النظام و جل احزاب المعارضة نتيجة لما تعتبره المعارضة  إخلالا من طرف النظام  بتعهدات عديدة كان قد قطعها على نفسه  و لم يف بها، ونتيجة أيضا  لتوجس النظام من نوايا بعض أحزاب المعارضة التي لا تعترف بشرعيته  و تعلن دون مواربة عن سعيها إلى ترحيله  بالقوة. 

ونتيجة لهذا المناخ ولهذه الذهنية، لم يتسن توفر ارضية ملائمة لحوار بناء  يتوقع أن يثمر نتائج إيجابية تمكن من حلحلة  الأزمة المستحكمة و تخطي الجمود  و المراوحة السائدين. و في خلال الأسابيع المنصرمة، قدم الرئيس مسعود ولد بلخير إلى الرئيس محمد ولد عبد العزيز مبادرة  قام ببلورتها تضمنت على الخصوص :

تأجيل انتخابات الشيوخ حل البرلمان و البلديات إجراء انتخابات رئاسية و برلمانية و بلدية سابقة لأوانها حل الحكومة و تعيين حكومة توافقية تغيير الهيآت الدستورية و اللجنة المستقلة للإنتخابات تمديد سن الترشح للرئاسة إلى 85 سنة

وقد شكلت هذه المقترحات باكورة لوثيقة أكثر شمولا، مستلهمة من مقترحات إضافية تقدم بها بعض أحزاب المعارضة الأخرى، أعدتها الحكومة وقدمتها للأحزاب السياسية و مختلف الفاعلين المهتمين الآخرين كإطار لحوار يتم الإعداد لإنطلاقه في الأيام القليلة القادمة.

وفي أعقاب ذلك قامت أحزاب المنتدى الوطني للديمقراطية بتقديم ورقة  اخرى تضمنت النقاط  التالية:

إقامة حكومة توافقية ذات صلاحيات واسعةإعادة تشكيل المؤسسات المشرفة على الانتخابات حياد الإدارة و الناي بها عن تعاطي السياسة إبعاد الجيش عن ممارسة السياسة و إبقاؤه على مسافة واحدة من كل الفرقاء السياسيين وتصويت العسكريين في نفس اليوم الذي يصوت فيه المدنيون تعيين المسؤولين في الوظائف على أساس الكفاءة  وليس على اساس الولاء السياسي و فصل الصفقات العمومية  و التراخيص  المختلفة  و الخدمات العامة عن السياسة تحييد المال العامفتح وسائل الإعلام العمومي امام جميع الفرقاءمراجعة النصوص الانتخابية بصورة توافقية إكمال تسجيل المواطنين في سجل السكان و الوثائق المؤمنة التدقيق في السجل الانتخابي إشراك جميع الفرقاء في إعداد اللائحة الانتخابية.

و نتيجة لتفاعل كل الفرقاء و الفاعلين المهتمين مع هذه المقترحات فقد بات من شبه المؤكد أن النظام و المعارضة بمختلف أطيافها تتجه إلى البدء عما قريب  في حوار جدي على أساس النقاط الرئيسية الآتية :

تشكيل لجنة مشتركة لتنفيذ ما يتم الاتفاق عليه بين الأطرافالذهاب إلى حوار مباشرو بشكل جماعي في الأجل القريب تأجيل انتخابات الشيوخ تعيين لجنة مستقلة للانتخابات جديدة ذات مصداقية تحظى بثقة الجميع إعادة تشكيل المجلس الدستوري الحالي تعيين مدراء  للضرائب و صندوق الضمان الصحي يتمتعون بثقة كل الأطراف تعيين مدير جديد للمركز الوطني للإحصاء و هيأة الوثائق المؤمنة و مراجعة اللائحة الانتخابية.

هذه كلها مؤشرات و قرائن تبعث على الاعتقاد أن الحوار صار قاب قوسين او ادنى  من الانطلاق رغم بعض الأصوات الناشزة التي ما زالت تسمع لدى بعض جهات المعارضة الغير متحمسة للحوار مع النظام ، لانعدام ثقتها في وعوده و تعهداته. فهل ستنبت هذه الجهات عن السرب أم أنها  ستتلتحق بالركب؟ و هل سيكون لامتناعها المحتمل عن المشاركة في هذا الحوار كبير مفعول؟ أم أنها لن تؤثر في سيرورة الأمور؟ هذا ما ستتكفل الأيام القادمة بإظهاره. 

رؤية الواقع السياسي  من طرف المراقبين إن رؤية الواقع السياسي للبلاد الذي بإمكاننا كمراقبين مهتمين، تفحصه  بغية تقييمه  و استقرائه، يتركب من شقين اثنين. الشق الأول يتمثل في تعاطي النظام مع الأوضاع الداخلية  و تعامله مع مختلف القوى المؤثرة في جريان الأحداث السائدة. والشق الثاني يتصل بأداء النظام على الصعيد الإقليمي و الدولي. في ما يتعلق بالشق الأول يمكن القول بأن الأوضاع  على الصعيد المحلي  باتت تتسم بجمود ملحوظ  يرجع في تقديرنا إلى ضعف التواصل و التفاعل  بين النظام و مختلف قوى المعارضة التي يمكن القول بأنها  مصابة  بنوع من الإحباط و الإكتآ ب  جراء تجاهلها و تهميشها  المتواصل من طرف النظام  ، مما دفعها إلى انكماش و انزواء تمليهما قناعتها المتنامية  بعدم جدوائية اتخاذ أية خطوة للتعامل أو التفاعل مع االسلطة المصرة أصلا –كما تعتقد- على إقصاء ها و الحيلولة دون لعبها اي دور ذي أهمية في الحياة الوطنية. علما أن هذه الوضعية من شأنها أن تفضي إلى شل نشاط  جزء كبير وفعال من قوى البلاد الحية و إلى تعطيل موارد بشرية معتبرة  ، و الحؤول دون استثمار عطائها الممكن لفائدة المجموعة الوطنية. الشيء الذي من شانه  أن يولد إضافة إلى ذلك ، استياء و سخطا قد تكون لهما تدا عيات سياسية غير محمودة العواقب.

و ثمة أيضا امتعاض حقيقي  لدى النخب  و قادة الرأي من النزوع  السائد إلى السلطوية والأحادية  و الانفرادية  في اتخاذ القرارات. وهناك العديد من افراد النخبة و المثقفين المهتمين بالشأن العام يتطلعون إلى أن يتم الإقلاع في اسرع وقت عن هذا السلوك السياسي الغير قويم  في رأيهم.على أن تحل محله  سياسة إشراك اصحاب الكفاءات المهمشين  و التشاور معهم ، سعيا إلى مزيد من صوابية القرار و توخي العقلانية و النجاعة.

و يتسم الشق الداخلي من الواقع السياسي  للبلاد كذلك ،  بتزايد نشاط الحركات لمتطرفة ذات الطابع العنصري الداعية إلى التمييز العرقي و الشرائحي و الفئوي و الساعية إلى بث الكراهية ، والداعية إلى الإنفصام و الإنفصال إضافة إلى التجديف و الترويج للهرطقة و الإلحاد . 

دون أن يصار إلى بلورة سياسة ناجعة و حازمة  للتصدي  لهذه التيارات الهدامة التي تشكل خطرا حقيقيا على تماسك مكونات الشعب الموريتاني، و التي تستهدف قيم البلاد الدينية و الحضارية.  فضلا  عن أنه لم يتم  اتخاذ  اي إجراء سياسي حازم لمواجهة تحركات مشبوهة تقوم بها منذ بعض الوقت  سفارات أجنبية تنشط في رابعة من نهار لدعم و مؤازرة كل دعاة الانشقاق و الانفصال في البلاد. 

أما في ما يتعلق بالشق ألخارجي، فإنه يمكن القول  أن البلد قد طور  سياسة جديرة بالتنويه تمثلت اساسا  في خلق قناعة  قوية  لدى الدول الغربية المتنفذة  بمقدرة موريتانيا على الوقوف بقوة وصلابة في وجه الإرهاب في منطقة الساحل الصحراوي.

 ما جعل هذه الدول تسعى باستمرار إلى إقامة تعاون  وثيق  مع البلاد في المجالات العسكرية  ثم الإستراتيجية و السياسية ، فضلا عن إقامة شراكة وطيدة  في مجال مواجهة الهجرة السرية و محاربة الاتجار بالأسلحة و المخدرات. و قد قادت هذه الوضعية  إلى حضور أكبر لموريتانيا على الصعيد العربي و الإفريقي و الأوروبي ، كان من تداعياته انتخاب البلاد  على رأس الإتحاد الإفريقي و ترأسها مجموعة  دول الساحل الخمسة  ثم مبادرة نواكشوط ، إضافة إلى تصدرها  لعدة ملتقيات و فعاليات و أنشطة دولية  .

ولا شك أن كل هذا قد شكل نجاحا لا يستهان به للسياسة التي انتهجها النظام على الصعيد الخارجي. استشراف مستقبل الحوارات  المرتقبة  في موريتانيا إن استشراف المستقبل عملية بالغة الصعوبة  تقتضي الكثير  من التحري و الاستقراء و الخبرة في استنطاق  الأحداث  و القدرة على الاستشفاف  و الاستنباط و التكهن،  وهذا ما ليس باليسير، ولا سيما إذا تعلق الأمر بمحاولة استشراف مستقبل الحوارات السياسية بموريتانيا. وكل ما بالإمكان  في هذا المضمار  هو أن يراهن المرأ على ذكاء  الطبقة السياسية  الموريتانية و استيقاظ حس المسؤولية لديها و مقدرتها على إدراك الأهمية القصوى لتوحيد الصفوف و تكاتف الجهود لتشكيل جبهة داخلية متماسكة على اختلاف مكوناتها و تعدد عناصرها ، جبهة قادرة على تحصين البلاد من مخاطر الإرهاب  الذي بات يهدد المنطقة المحيطة بها  ومن دسائس المتربصين  بها  من خلال المجموعات العميلة التي يعمد هؤلاء المتربصون إلى تسخيرها لخدمة  أهدافهم المشبوهة. 

كل هذا من شانه في اعتقادي ، إذا ساد المنطق و العقلانية ،أن يدفع الطبقة السياسية  الموريتانية ، موالاة  و ساسة  و معارضة و نخبا، إلى نبذ الصراعات العقيمة و العدول عن المواجهات العنيفة  و إبدالها بالمنافسات  الرصينة المسئولة و  الساعية إلى تقبل الاختلافات و إدارة الخلافات  بشكل حضاري  يفسح المجال للرأي و الرأي الآخر ويتجنب الغبن و الإقصاء  و الظلم و التسلط . لأن هذا هو ما يمليه  العقل  و تقتضيه الحكمة و يستوجبه قيام مجتمع مستقر يسوده العدل  و الرخاء  والازدهار. 

وفي الختام أعتقد أن كل حوار ينظمه الفاعلون السياسيون الموريتانيون لا يجعل نصب عينيه هذه الأهداف ولا يسعى إلى تحققيها سيكون جهدا ضائعا  و عملا سيزيفيا  عبثيا لا طائل من ورائه. و هذا ما لست أشك فيِ أن التجارب المريرة الماضية قد علمته للطبقة السياسية الموريتانية التي لا أخال أنها سوف  تقبل أن تلدغ من نفس الجحر عدة مرات. 

نواكشوط 05   فبراير 2015