لم يكن العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني؛ وهو يطلق تعبيره الشهير "الهلال الشيعي" في حديث للواشنطن بوست قبل عشر سنوات، يتخيل أن يتحول ذلك الهلال إلى دائرة يوشك أن تبتلع بلدانا تضم العمق الروحي وتمثل الذخر الاقتصادي لسُنة العالم. فها هي مخالب الهلال الشيعي تمتد إلى اليمن لتعيد التجربة الإيرانية مع سنة العراق، فتقتل وتفجر وتهجِّر كل من يشار إليه بالبنان من ساسة وقادة رأي وعسكريين يمكن أن يشكلوا حجر عثرة أمام المشروع الشيعي الصفوي في المنطقة. وبلغة المنطق السياسي المتواضع عليه؛ فلا تثريب على "ولاية الفقيه" حينما تقرر المضي في نشر مشروعها على نطاق واسع، تمويلا وتدريبا وتسليحا، وحتى مشاركة كما هو حالها الآن في سوريا، فهي لم تكن بدعا من ثورات العالم. بيد أن العجب كل العجب يكمن في حالة التخبط؛ الذي وصل حد التواطؤ، في صفوف حكومات الدول السنية الوازنة روحيا واقتصاديا وديمغرافيا واستراتيجيا، وهي ترى الأجندة الشيعية تحيط بها من كل مكان دون أن تحرك ساكنا، أو تنبس ببنت شفة، أو تُظهر؛ على الأقل، خشيتها من تهديد أمنها القومي.. بل وجودها من الأساس.
وبالطبع؛ فإن المحللين المدركين لكنْه تبعية غالبية الأنظمة السنية العمياء للغرب، وارتهانها لقراره مهما كان حيفا في حق عروشها قبل أوطانها، لن يتفاجأوا بمحاباة تلك الأنظمة للانحياز الغربي البيِّن للشيعة على حساب السنة، حيث سبق لهذا الغرب أن درس الجذور الفكرية للتشيع الفارسي برَوية تامة، خرج منها بمسَلمة خلاصتها الاطمئنان إلى وقوف شيعة اليوم معه ضد أهل السنة والجماعة، مثلما وقف أجدادهم الصفويون؛ الذين حكموا إيران في القرن السادس عشر الميلادي في إيران، مع الصليبيين ضد الخلافة العثمانية. لقد كانت الدولة اللبنانية الوجهة الأولى لنشر فكر التشيع في ربوع الوطن العربي لتكون منطلقا نحو بقية الدول (الخليج، العراق، سوريا، واليمن)، وهو ما أكده فخر روحاني، سفير إيران السابق ببيروت، في تصريح لصحيفة النهار اللبنانية قائلا بالحرف الواحد: (إن لبنان يشكل خير أمل لتصدير الثورة الإسلامية)، وذلك رغم الأهمية التي يحظى بها البلد لدى أنظمة سنية عتيقة.
وكان المرجع الشيعي موسى الصدر قد أسس (المجلس الشيعي الأعلى في لبنان)، وقبل 45 سنة أسس الصدر ذاته حركة أمل الشيعية التي يتزعمها الآن رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، وكان من نتائج تأسيس "أمل"، بعدما تلقت التدريب اللازم على أيدي المقاومة الفلسطينية السنية في لبنان، تنفيذ المجازر بحق الفلسطينيين في مخيمات صبرا، شاتيلا، وبرج البراجنة. ورغم أن حزب الله الشيعي خاض حروبا ضد الاحتلال الصهيوني لجنوب لبنان، واستطاع تحرير الأرض اللبنانية المحتلة، على عكس حركة أمل الشيعية التي ساعدت الصهاينة في احتلال لبنان، فإن سلاح الحزب وآلته الإعلامية باتا موجهيْن لتشويه وقمع السنة، خاصة بعد اتفاق وقف إطلاق النار بينه والكيان الصهيوني الذي أنهى حرب 2006.
ولم يكتف حزب الله الشيعي بمحاولات إذلال سنة لبنان، فقد عبَر الحدود للمشاركة في إبادة سنة سوريا، حيث تم توثيق جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبها مقاتلوه في حق أطفال ونساء وشيوخ المدن والأرياف ذات الكثافة السنية، وهي المجازر التي نُفذت إرضاء لأطماع المشروع الصفوي الطائفي في المنطقة. وفي العراق؛ دأبت المرجعيات الشيعية على تكوين ميليشيات مسلحة تقتل وتعتقل سُنة العراق خارج إطار القانون، وذلك على مرأى ومسمع من الحكومة الشيعية الطائفية التي كان يقودها الديكتاتور الشيعي نوري المالكي، ناهيك عن التدمير الممنهج للمناطق السنية على أيدي جيش وأمن كان يفترض فيهما الدفاع عنها لو لم يتم تأسيسهما على خلفية طائفية بحتة، لكن ذلك لم يقنع قادة معظم الدول السنية بأن تقاسم الولايات المتحدة وإيران للكعكة العراقية لن يقف عند حدودها مع السعودية والكويت والأردن وتركيا، بل إن هزاته الارتدادية ستؤدي، وقد أدت، إلى اقتلاع نفوذ سنة اليمن، لينشأ زلزال آخر تسير هزاته بسرعة أكبر في كل الاتجاهات، وبدون استثناء. وأمام وضع كهذا يتفرج الغرب؛ وسط صمت رسمي سني مطبق، على جرائم الشيعة بحق السنة وكأن شيئا لم يحدث، في حين تُقام الدنيا ولا تُقعد بمجرد قيام أي فصيل سني باستخدام حق الدفاع عن النفس، بغض النظر عن تقييم سلوكياته، فيُوصم بالإرهاب وتتحرك الأحلاف التي عادة ما تكون بعض الأنظمة السنية رأس حربة فيها تمويلا ومشاركة وغطاء شرعيا، لينقشع الغبار عن "الهلال الشيعي" وقد أضحى بدرا، وعن البدر السني وقد عانى الخسوف، في حين تستنفر غالبية الأنظمة السنية كافة طاقاتها المادية والعسكرية والاستخباراتية والإعلامية لاستئصال التيار السني المنظم الوحيد الذي يمتلك مشروعا حضاريا يمكنه الوقوف أمام المخططات الشيعية في المنطقة، وكأني بتلك الأنظمة؛ حينما يُطبق عليها "البدر الشيعي"، تصيح بملء حناجرها: (أكلتُ يوم أكل الثور الأبيض)، وما سقوط صنعاء منا ببعيد.
ألم تدرك تلك الأنظمة أنها باستهداف جماعة الإخوان المسلمين وأحزابها ومنظماتها المدنية، إنما تقتلع أسس بقاء عروشها؟! ذلك أن البديل لا يمكن أن يتعدى أحد خيارين: إما الحركات الجهادية الموسومة بالإرهاب، وإما "ولاية الفقيه"، وهما أمران أحلاهما مر؛ بحسب تقييم الأنظمة السنية ذاتها. فإلى متى الصمت في وقت الكلام، والحياد في زمن الانحياز؟!، وهل ستُضيِّع الأنظمة السنية الصيف اللبن، بالاستمرار في تحالف "التبعية" مع الولايات المتحدة وأوروبا في مقابل تحالف "المقايضة" الشيعي الغربي؟!