أي مقاربة نقدية لجيل الستينات ستكون أشبه بمحاولة الاقتراب من منطقة ملغومة، إذ تتحول الكتابة إلى مغامرة في مواجهة وعي شقي لجيل صاخب، مهزوم وباحث عن أوهام الحرية عبر الكتابة، تلك التي تشبه (المرايا الخادعة) والتي تشتبك فيها الوجوه الشائهة، وأقنعة الاعتراف بالتجريب، مثلما ينكسر فيها الوعي الإيديولوجي مقابل تضخم (الأنا) المفجوعة من السلطة ومن الفقر والخواء..أجواء الستينات محشوة كثيرا بالهموم المضللة، والثياب الفضفاضة، شعراؤها مسكونون بأسئلة الرفض والتمرد، والانغمار بهواجس الجسد، والإيديولوجيا، واليوتوبيا وأساطير الباحثين عن سرائر الخلاص الوجودي، تلك التي اتكأت على مرجعيات العبث الكاموي والغثيان السارتري واللاوعي الفرويدي.. فوزي كريم تشغله هذه اللعبة كثيرا، بوصفها لعبة التحقق في الذات، ومغامرة الخلاص، والوعي الشقي، واصطناع وجه آخر للسؤال الشعري، أو ربما لوعي الكائن الشعري الذي يتلبسه في اللغة وفي اللون، وعبر القلق واليوميات والاحتجاج..الكائن الشعري عند فوزي كريم يشبه طفل (هانز أندرسن) الفاضح لثياب الإمبراطور، المسكون بغوايات التعرية والصدق والاغتراب، إذ يصطنع عبر هذا الوعي العاري هاجسا متعاليا لهذه السكنى، ذلك الذي يدفعه للبحث الدائب عن المعنى والفكرة واللذة، إذ تستغرقه القصيدة بوصفها تشبيكا لغويا مع العالم والأشياء، أو بوصفها لعبة استيهامية للتواصل- على طريقة هابرماز- يختلط فيها الوجودي والذاتي، مع تمثلات الشعري في البنية التعبيرية للموسيقى والتشكيل.. هذا الاصطناع باعثه الجوهري الحصول على اللذة، إذ تبدو هذه القصيدة، وكأنها لعبة في استدعاء هذه اللذة، بلا أقنعة، وبلا بلاغة ثقيلة، لأنها تضع شاعرها عند منطقة مفتوحة للتنافذ بين استعارات الجسد والمعنى، وعبر استعارة روح الفيلسوف وشغف الإيروسي بحثا عن إغواء روح الكائن، وتسكينه بوهج ما يمكن أن تتيحه اللغة، تلك التي تشبه التعزيم، أو شفرة الساحر، أو ربما تشبه البيت الهيدغري، وهي تستدعي الكثير من التفاصيل والأسرار، أو يمكنها أن تتحول إلى مجس أو شراع أو اوركسترا، أو حتى فأس أو عين لكي يمارس من خلالها الكائن الشعري رؤيته المتعالية للعالم، أو تلمّس أوهامه، وحتى استكناه اندفاعه الحسي والتعويضي لحيازة المزيد من الاستعارات، تلك التي توهبه أوهام التوغل والتقنّع، والاندفاع الشعري لإصلاح العالم، والنزوع إلى ممارسة شهوة صيانته الافتراضية، بما فيها الكلمات والعلاقات والأجساد.. يقول فوزي كريم عن كائنه الشعر: إنه الباحث والعارف والمتجلي، الذي يتلمس خطاه وسط زمن يركض، أو يتسلل، أو يتلصص..منذُ عشرين عامْوأنا أتأمّلُ ظلاً يُقاربُ بين الكلامِ وبين الحجارة،حيثُ تبدو القصيدةُ في هيئةِ امرأةٍ من رخامْتتوسطُ حقلاًوتكشفُ للشمس عن فتنةٍفي الخطوطِ وفي الاستدارة.كلما أورثتني الطبيعةُ حكمتَها صرتُ أصغي لقلبِ الظلامْ:في مخالبَ خاطفةٍ فوقَ صِدْغيَّ،في الرائحةتتفَشّى سريعاً مع اللمسةِ الجارحة.ولذا أترقَّبُ في حقلِ أغنيتي كيفَ يبدو الرخامْأولَ الليلِ ظلاً لمعنى،ثم يبدأ دفءُ العظامْ..لعبة الإصغاء عند فوزي كريم واحدة من أكثر سرائر كائنه الشعري إثارة، تلك التي تتقصى تدوين سيمياء ما يصله من أصوات، أو ما يستلذ به من صور، بوصفهما المعادل الحسي والتعبيري الذي يجعل كائنه مسكونا بشهوة ذلك الإصغاء/ روح الموسيقى، والباعث على استنطاق ما يمكن أن تحوزه عبر التلذذ، أو عبر الرؤيا، أو عبر ما يمكن أن تثيره اللغة بوصفها شفرة للأصوات، وللبحث عن الإشباع، أو مواجهة فوبيا الفقدان والانخراط في لعبة فائقة لوهم السيطرة على العالم…الشاعر يسعى عبر هذا الإصغاء إلى إلباس كائنه الموهوم لبوس الرائي والعارف، لكي يكون أكثر قدرة على المجاهرة دائما بتلك الشهوة الفارقة، والدافعة لاستكناه الوجود عبر اللغة، وهي تتشظى عبر أرواح الموسيقى واللوحة إلى ما يشبه تجميع التقاطاته الصغيرة في المعنى والاستعارة واليومي، تلك التي تحقق فعل الوعي بالذات، والفكرة، والوعي للذات بوصفها حيازة لرؤيا التجاوز…فوزي كريم ينطلق عبر هذه التقانة/ الإصغاء إلى استجداء ما يجاور تلك اللغة، ليس لأن هذه اللغة اخذت تشترط امتيازها السيميائي وحتى التعبيري، بل لأن ما يتشكل في القصيدة يمارس تنافذه مع اشتغالات التشكيلي والموسيقي، بوصفه أقصى لعبته الشعرية، أو بوصفه الفعل الوجودي الضاغط على إبراز وجه آخر للشعرية، تلك التي تزيح البلاغي عن الجمالي، حدّ أن القصيدة تتحول إلى ما يشبه الزي، المشبوك باللون، والإثارة، لكنه أيضا المشبوك باليومي والهامشي، ليكون توصيفها مجاورا لما تثيره سيمياء النص المفتوح، النص الذي يستدعي الكثير من المجاورة والتركيب والتدفق والتوليد..هذا النص المقترح هو عنوان اشتغالي للشاعر، مثلما هو عنوان للتحول في تداول أكثر تمثيلا للشعرية، وأحسبه أيضا باعثا على رغبة حميمة باتجاه تجديد مبنى القصيدة/ النص، وتأهيل مكوناتها التشكيلية والتعبيرية والرمزية، إذ يفترض هذا المبنى التموضع في نسق يتجاوز فيه الشاعر الكثير من مألوفات الكتابة ونمطيتها، وباتجاه الاستغراق في تلمّس التحولات الفنية والشكلانية التي اقترنت بمغامرة كتابة القصيدة الجديدة، تلك القصيدة التي باتت تتسع كثيرا لتفاعلات السيميائي والسردي، ولمشاغل ما يمكن أن تستوعبه عبر تبديات التشكيلي والموسيقي، وبما يقارب ما بين مجاورة الموسيقي الشرقي مع ما يتساقط من البنية التفعيلية من إيقاع، مقابل ما تكشف عنه الموسيقى الغربية في بنية الهارموني والامتداد المقامي، وهذا ما أكسب قصائده خصوصية الانفتاح على تلك المجاورة، وعلى التمثل إلى ما يحدس به وعي الشاعر من رؤيا وحدس وكشف، وما يتجلى فيها من دلالات ومعان هي جوهر موقف الشاعر من الوجود والذات..كما أن المبنى التشكيلي في قصائد فوزي كريم يستدعي أيضا مجموعة من التمثيلات، تلك التي تبيح للشاعر أن يصطنع عبرها المزيد من الدوائر الشعرية، التي لها حمولاتها الرمزية، مثلما لها خصوصيتها في تركيب اللوني مع الاستعاري، وباتجاه أن يكون الإطلاق البصري في القصيدة نوعا من البحث في اللانهائي، حتى تبدو البنية الشعرية قريبة البنية الموسيقية، وعبر استغراق يتيح للشاعر الكثير من التجريب والانغمار في مغامرة التدفق والمفارقة والاندفاع، حيث تكون الجملة الشعرية، هي الأقرب إلى الجملة اللونية، بوصفهما قيما تعبيرية، فضلا عن تمثل بعض الإشارات الشعرية مع الإيحاءات العرفانية بوصفها مركبات تسبغ على النص توليدات لمعان لامتناهية للوجود، وللذات، تلك التي تمارسها الذات الشعرية العارفة والرائية بوصفها نوعا من التماهي المتعالي، إذ تنشدّ إلى لعبة استقراء العالم وهو مسكون داخل اللغة أو اللوحة أو الكتلة الموسيقية، وبما يعطي للقصيدة/ النص قدرة على أن تكون عنوانا تعبيريا للتجاوز الإسلوبي الذي يمارسه الشاعر وعيا، وبما يعطي له أيضا فرصة لممارسة أقصى طقوس الحرية بوصفها جوهر انسنته، وسر وجوده، ومولد لذته التي لا تنتهي…
ناقد عراٍقي
علي حسن الفواز