لا يختلف اثنان في موريتانيا، وربما خارجها؛ أيا كانت الخلفيات، سياسة أو حقوقية أو نقابية، أو إعلامية، حول النجاح الباهر الذي عكسه مستوى التوافق الوطني الجامع، الذي توج المرحلة الانتقالية التي عاشها البلد بين الثالث من أغسطس 2005 و الثامن عشر إبريل 2007، بقيادة الرئيس الراحل العقيد اعل ولد محمد فال؛ رحمه الله..
شكلت الرؤية المتبصرة للرئيس الانتقالي، وانطلاقه من تشخيص دقيق، موضوعي وشامل لوضعية البلد يوم توليه مقاليد السلطة؛ خاصة على المستويات؛ الاقتصادية (انهيار غير مسبوق)، والسياسي (انسداد كامل بالأفق)، والاجتماعية (احتقان ينذر بانفجار وشيك)... أساسا مكينا للانطلاق بحزم وروية في مسار إصلاحي شامل، كانت أولى رهانات نجاحه، بعد التشخيص وتحديد الأهداف، اختيار الجهاز التنفيذي القادر على ضمان الوفاء بتعهدات المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية وفي طليعتها تقويم اقتصاد البلد وإرساء نظام ديمقراطي تعددي فعلي؛ وفق آليات توافقية شفافة ومستدامة.
ومثلما وفق الرئيس الانتقالي (رحمه الله)، بخبرته المشهودة ووطنيته الصادقة، والكاريزما القيادية التي يمتاز بها؛ في اختيار طاقمه الحكومي المشرف على عملية التقويم الاقتصادي واستعادة مصداقية البلد أمام الشركاء الدوليين، كان اختياره لرجال المرحلة الأكفاء و المؤهلين، القادرين على إرساء الأسس المكينة والمستدامة لنظام ديمقراطي تعددي جامع وذي مصداقية، بذات المستوى من التوفيق والوجاهة.
ولأن قطاع الداخلية يشكل قاطرة الجهاز الحكومي فيما يتعلق بالأطر المؤسسية للنشاط الحزبي وضمان الممارسة الحرة والمسؤولة للحريات العامة؛ وبالتالي محور العملية الانتقالية نحو إرساء النظام الديمقراطي المنشود، بمشاركة وتزكية الجميع، سياسيين وفاعلين في المجتمع المدني، سبيلا إلى بناء الثقة والمصداقية في المشهد الوطني العام، فقد تم اختيار الرجل المناسب للموقع المناسب، فتم تعيين الإداري البارز ذي الكفاءة العالية والتجربة الوظيفية الناجحة، محمد أحمد ولد محمد الأمين لتلك المهمة الوطنية الجسيمة.
باشر ولد محمد الأمين، فور توليه حقيبة الداخلية، التحضير لمسار التشاور الوطني الجامع ضمن ما عرف آنذاك بالمنتديات العامة للديمقراطية، وهو المسار الذي توج بإجماع وطني غير مسبوق؛ مكن من إدخال تعديلات دستورية تضمن التناوب الديمقراطي السلمي على السلطة من خلال تقليص مدة المأمورية الرئاسية وحصرها في اثنتين غير قابلتين للتجديد، وكذا باستحداث هيئة مستقلة للانتخابات؛ هي الأولى من نوعها في تاريخ البلد.. لتتكل المرحلة الانتقالية بإعلان الوزير محمد أحمد ولد محمد الأمين نتائج الاقتراع في أول انتخابات رئاسية تعددية، شفافة دون أي مشاركة أو تدخل من السلطة، كما أفرزتها اللجنة الانتخابية الوطنية المستقلة، وتسلم الرئيس المنتخب مقاليد السلطة من سلفه الانتقالي - رحمة الله عليهما - وسط حضور وطني ودولي لافت.. وكانت نتائج تلك الانتخابات موضع قبول بإجماع الفرقاء السياسيين ومن نافسوا الفائز بها على أصوات الناخبين؛ وهي أول مرة في تاريخ الديمقراطية الموريتانية لا يصدر في أعقابها أي طعن ولا تشكيك في النتائج ولا في مستوى نزاهة وشفافية الاقتراع.
بعد الإطاحة بالرئيس المدني المنتخب سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله رحمة الله على روحه الطيبة ، ضمن ذلك المسار الانتقالي الناجح بكل المقاييس، في انقلاب عسكري بعد نحو عام واحد على تنصيبه، ثم التوصل لتسوية سياسية تعيد العمل بالنظام الدستوري، دخلت البلاد مرحلة جديدة من الاحتقان السياسي والاجتماعي فاقمه استهداف ممنهج للخصوم السياسيين، وقمع أصحاب المطالب والتظلمات من النقابيين والحقوقيين.. فضلا عن حبس وتهجير فاعلين وطنيين بارزين في مجال الاستثمار على مستوى القطاع الخاص.
في تلك الظروف الاستثنائية، وبفعل "الأقفال" الدستورية غير القابلة للفتح؛ كما يصفها الرئيس الراحل اعل ولد محمد فال، لم يكن أمام الرئيس ـ حينها ـ محمد ولد عبد العزيز، من خيار غير التنحي بعد اكتمال مأموريته الثانية (الأخيرة) فنظمت انتخابات رئاسية أجمع المتنافسون فيها ومعهم المراقبون المحليون والدوليون على شفافيتها، ليفوز الرئيس الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني بالأغلبية المطلقة من أصوات الناخبين في الجولة الأولى من الاقتراع.
تعهد الرئيس الجديد، في حملته الانتخابية وعند تنصيبه، بإرساء مناخ من الهدوء السياسي والثقة بين كافة الفرقاء السياسيين؛ من جهة، وبين السلطة من جهة أخرى، سبيلا لإنهاء حالة الاحتقان التي خلفتها عشرية الإقصاء ومضايقة الخصوم وتكريس الزبونية السياسية.
وسعيا منه إلى تحقيق ما تعهد به بشكل فوري وتجسيد شعاره الانتخابي الشهير، "للعهد عندي معناه"، كان أول إجراء يقوم به الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، فور تنصيبه، تعيين محمد أحمد ولد محمد الأمين مديرا لديوانه؛ فكان مهندس تلك اللقاءات غير المسبوقة التي خص بها الرئيس أبرز قادة المعارضة السياسية في البلد، وفي مقدمتهم منافسوه في رئاسيات 2019.
ولأن إطلاق تشاور وطني جامع وشامل كان المطلب المشترك لدى كل من التقاهم الرئيس من قادة الطبقة السياسية والمجتمع المدني، وبعد اكتمال مهمة تنظيم اللقاءات المباشرة بين رئيس الجمهورية وأبرز قادة المعارضة، بنجاح؛ أوكل ولد الشيخ الغزواني لمدير ديوانه مهمة تجسيد تلك النتائج والمخرجات من خلال إطلاق تشاور وطني "لا يقصي أحدا ولا يستثني قضية"، فعينه وزيرا للداخلية واللامركزية، حيث باشر لقاءاته مع مختلف القادة السياسيين وممثلي هيئات المجتمع المدني بكافة أطيافها ومجالاتها؛ ما مهد لانطلاق جلسات التشاور الوطني الجامع بكل انفتاح وأريحية، نالت تقدير ومباركة جميع الأطراف المشاركة.
من أبرز نتائج تلك اللقاءات التشاورية المفتوحة والجامعة، ضمن إصلاحات أخرى، إعادة تشكل اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات، تم اختيار أعضائها طبقا لمبدا التمثيل الموضوعي للأغلبية والمعارضة، وكذا تحديد جدولة زمنية توافقية للاستحقاقات الانتخابية القادمة، ومراجعة السجل الانتخابي من أجل تحيينه وتأمين المساواة في فرص المنافسة الشريفة لنيل أصوات القواعد الانتخابية في كافة الدوائر بعموم التراب الوطني وفي المهجر.. مع الإبقاء على باب الوزارة مشرعا أمام كل الاستشكالات والاعتراضات والاقتراحات المحتملة.
أحمد ولد إسلم