لم تدخل موريتانيا مرحلة "الدَولنة" إلا في وقت جد قريب ولذلك ظروفه ومسبباته، ولقد ظل المجتمع الموريتاني مترحلا، غير مستقر، نظرًا لطبيعته المتأصلة فيه ،وكونه لا يحفل بمظاهر الدعة ،والاستكانة والعمران، بل ظل "الملثمون" يستوطنون الصحراء وينبذون العمران .كما قال ابن خلدون في مقدمته.
وإذا كانت قبائل هذه البلاد،قد توافدت عليها زرافات ،وطوائف ،وذلك بعد مسيرة لا تخلو من ضنك ،ومتاعب، فإن الأرض التي وضعوا فيها عصا الترحال ،لم تكن لتؤلف بين قلوبهم.أو تجعلهم ينصهرون في بوتقة واحدة .سعيا إلى إقامة كيان يضمن لهم العيش في كنف الاستقرار.وبدلاً من تحقيق ذلك ،فإن هذه القبائل ستعرف نزاعات ،وحروب ،وتباين في المسالك.الأمر الذي حال دون قيام أي شكل من أشكال التعاون، أو الائتلاف .وبالتالي قضى على أي بادرة يمكن أن نستشف منها بذور دولة على النمط العصري.
وهكذا مثلا تم القضاء مبكرا على حركة < ناصر الدين> التي كانت تسعى إلى تنظيم اجتماعي ،و سياسي يكون الدين لحمته وسداه.فلقد تكالبت على هذا " المشروع" الخصوم من بني حسان ومن لف لفهم في مواجهة "الزوايا" وجاءت الغلبة لصالح بني حسان ومن دار في فلكهم ،وهو ما يعرف محليا بحرب " شربب " ولقد أورثت هذه الحرب انقسامات طائفية ظلت قائمة إلى يوم الناس هذا. كما أن التنظيم الإماراتي الذي تزامن مع هذه الحرب، لم يف هو الآخر بمتطلبات الدولة.وذلك نظراً إلى أن تلك الإمارات والتي عرفتها البلاد وقتئذ لم تكن قائمة من حيث المبدأ على مفهوم الدولة، أو ألأمة ، بل كانت اقرب ما تكون إلى التنظيم العشائري. زد على ذلك أن رحى الحرب ظلت تدور فيما بينها بسجال...
أما وضعية الإنسان فلم تكن بأحسن حال ،حيث تحكمت القوة ،وظل الضعفاء نهباً لكتائب تمتهن الإغارة تحت أسماء مختلفة .ولقد فرضت هذه الظروف واقعاً مأساويا،وبدأ اليأس والضجر يسيطران على أفئدة العزل والمستضعفين،الأمر الذى حدا ببعض الفعاليات الدينية والروحية الأهلية أن تتفهم، وتشرع القبول بحماية الأجنبي الدخيل دينياً "النصارى "والذي بدأت طلائعه تلوح في سماء البلاد ،فجاء الاستعمار بحجة تحقيق الأمن وبسط العدالة التي عزت .،وسيتسلل المستعمر رويدا، رويداً داخل البلاد.،لكن هيهات أن يكون إنقاذنا من الضلال على يد المستعمر والذي انصرفت نيته أصلاً إلى الربط الإستيراتيجى بين مستعمراته.
ولما حان حين الاستقلال وبدأت تظهر بعض الزعامات السياسية الوطنية وتدخل الساحة على رؤوس أصابعها بعد أن تشبعت بروح ونزعة " غرباناتية " فهل لمجيئها وهى تحمل الاستقلال والإنعتاق من ربقة الاحتلال إيذاناً بانبلاج عهد جديد ؟، وهل آليات الاستقلال ستدعم وجود الدولة ،أم تكون وبالاً عليه ؟.للإ جابة على هذه التساؤلات يسود الاعتقاد أن شيئاً من ذلك لم يحدث.حيث أن الخطاب السياسي ما بعد الاستقلال انصب على بناء وتكريس هياكل الدولة ومؤسساتها على طريقة ما هو قائم من دول ،ووسيلته في ذلك المحاكاة . أي أن الدولة عندنا ظهرت كظاهرة جديدة لا عهد لنا بها .اللهم إلا ما تركه المستعمر ،ومعنى ذلك أن دولتنا جاءت كإرثٍ إستعمارى وطفقنا نبنى عليه ،ولم تظهر الدولة عندنا كإرثٍ اجتماعي له ماضيه وتراكماته.، إذ ليست لدينا مفاهيم تراثية محددة عن الدولة. ومن الأخطاء أن هذه الإشكالية لم تؤخذ بالاعتبار الكافي، فكانت مرحلة الاستقلال بمثابة قفزٍ على الحواجز،فتم إدخال الدولة على المجتمع بشكل قسري إقحامي ، ودون أن تتم "دولنة " هذا المجتمع الذي ستسيره هذه الدولة.
وهكذا حصلنا على دولة بالمفهوم القانوني الفقهي ، رغم انه ليست لدينا دولة بالمفهوم التطبيقي الإجتماعى، ومن هنا تكمن المفارقة.
لقد كان من المطلوب أن تقوم الدولة الموريتانية على الأساس الفعلي ،لا على الأساس النظري الذي وجدت عليه مما جعلها لانتشر في العمق، بل ظلت رهينة السطح ،وهكذا طفقت هذه الدولة تحيط نفسها بشتى المؤسسات والأجهزة ، في الوقت الذي كانت تنأى فيه أكثر فأكثر عن محيطها ومجتمعها.
ومن أهم ما تم إغفاله إبان نشأة الدولة الحديثة ، والذي تغاضى عنه " البناة الأوائل " - جيل الاستقلال -،عن دراية ، أو عن غير قصد هو:
*عدم القيام بعملية بناء أمة لها نظرية سياسية ، وهدف حضاري تسعى لبلورته ،وتحقيقه، و تمتيعه بآليات الوعي السياسي والوطني ،حتى يكون بمقدوره التفاعل والتطور. فلو كان هذا المجتمع قد أُطر تأطيراً سياسيا واجتماعيا لأدى ذلك إلى تولد الإحساس السياسي والوطني لديه . لكن بدلاً من ذلك فإن نظام الحزب الواحد حال دون ظهور التعددية الحزبية الكفيلة بتأطير المجتمع سياسياً ،وتمثيل آرائه وأطروحاته ،والتي قد تتباين.
*أما على المستوى الإقتصادى ،فإن الدولة لم تنتهج لنفسها نمطاً اقتصاديا يتماشى وواقعها الفتى .فكان لزاماً عليها أن تبتكر نمطا اقتصاديا غير مقتبس عن الأيديولوجيات الاقتصادية الغربية ،ويكون نابعاً ومنسجماً مع المجتمع الأهلى.،فالنموذج الليبرالي أو الإشتراكى، قد لا يكون هو الحل الأمثل لمجتمع فتى ،بدوى، كالمجتمع الموريتاني لم يعرف في ماضيه تطورات على مستوى الاقتصاد السياسي.
*كان على الدولة الوطنية أن تعمل على إقامة مصالحة وطنية، لكل طوائف الساكنة المحلية ،والقضاء على الاختلافات، والتراتبيات و تصفية مختلف الو لاءات ،.والتي ظلت قائمة...
لكن من الملاحظ أن تلك الدولة أيامئذ ، لم تتعامل مع البنيات، والتنظيمات ، الاجتماعية التقليدية ،بالقدر الكافي من الحسم والفعالية،.هذا إن لم تكن قد استخدمتها وسيلة ، وأداة ، لتدعيم النفوذ، وبسط الهيمنة...
إن الذي تم رصده من أخطاء ، ومزالق ، ليس هو كل ما في الموضوع ، لكنه أجدر من غيره بالإثبات .
وأخيرا إذا كانت هذه الأخطاء وغيرها قد ارتكبت قديما ، وتم التغاضي عنها من لدن الَرعيل الأول الذي حمل عبء ، وشرف ، بناء الدولة العصرية ،فإن ماتم الشروع فيه اليوم ، من إصلاحات ،وسياسات، لقمين بأن يُجبر الضرر، ويرتق الخرق، فلقد تم التصدي لكل تلك العوائق ، بكل شجاعة ، وجلدٍ ، وهو ما سيحول دون أن تكون تلك البداية ،هي بداية النهاية ، لهذا الوطن الذي طالما أردناه قوياً ،عزيز الجانب.