محاكمة تاريخية بكل المقاييس، وحدث كبير لم تشهده موريتانيا منذ الاستقلال ، حيث يقف أمام المحكمة رئيس جمهورية سابق ، صاحب انقلاب عسكري و فترتي حكم انتخابي، و أحد عشر مسؤولا ساميا أو مقربا منه ، على مسمع و مرأى من أركان سلطانه، و تقدم ضدهم عريضة اتهام من 9000 ورقة ، تحتوي على كم هائل من الأسئلة و الأدلة و القرائن ، و سيمر على المحكمة عشرات الشهود الذين قد ينضاف بعضهم إلى دائرة الاتهام، و قد تستمر المحاكمة لعدة شهور .
المحاكمة تفتح الباب على مصراعيه أمام تحول سياسي ضخم ، و تشي بتصميم و إرادة من السلطة على تغيير أنماط ممارسة السياسة، و إصرارها على التطبيق الكامل لعملية فصل السلطات، انطلاقا من عدم تدخلها في عمل اللجنة البرلمانية التي تولت التحقيق في ملف العشرية، و انتهاء بعدم تدخلها في ملف المحاكمة التي بدأت هذه الأيام.
أعتقد أن المحاكمة ضربت في الصميم العديد من الصور السوداوية التي حاول بعضهم إلصاقها بالنظام ، من ضعف بنيوي ، و عدم جدية في عملية محاربة الفساد ، و هزلية محاكمة المفسدين .
لكنني أرى، على مستوى الواقع التنفيذي، أن ما نراه من جدية في تطبيق برنامج الرئيس الاصلاحي، قد ظهر كممارسة في حركة الرئيس نفسه دون غيره ، و قد تجلى ذلك في العديد في التصريحات و العمل الميداني ، فيما ظل العدد الأكبر من وزرائه خارج الحلبة يعيش نفس النمطية التي خبرها الناس خلال التجارب السابقة ، و قد أظهرت نشاطاتهم و تصريحاتهم عدم قدرتهم على مواكبة المرحلة ، و ضعف أدائهم المهني و السياسي، بل كشف في بعض الأحيان بساطة مستويات بعضهم الفكرية.
كما أن المرحلة أظهرت الجناح السياسي للسلطة التنفيذية المتمثل في حزب "الإنصاف" ، رغم محاولات إصلاحه و رغبة رئيس الجمهورية في تحويله إلى مؤسسة قوية، أنه ظل حبيس تأثير نفس الأوركسترا التي تحكمت في إنشائه و سيطرت على هياكله خلال العشرية .
أعتقد أن المحاكمة ينبغي أن تؤسس، واقعيا و نفسيا ، لمرحلة جديدة من الممارسة السياسية و التنفيذية ، أساسها الديمقراطية و التغيير البناء و التخلص من الأنماط و القوالب السياسية، و يمكن أن يتلخص ذلك في ما يلي :
- انتهاز فرصة الانتخابات التشريعية و المحلية لمسح الطاولة، من خلال ترشيحات حزب الإنصاف، بكل المنتخبين الذين يمثلون مرحلة العشرية و عقليتها ، و استبدالهم بطبقة سياسية جديدة أكثر نقاء و أقل تحجرا.
- اختيار حكومة مقنعة من الكوادر التكنوقراط النظيفة، عقب الانتخابات ، لخوض غمار التنمية و مباشرة تنفيذ برنامج رئيس الجمهورية قبيل الانتخابات الرئاسية .
- إعادة هيكلة كل القطاعات بطريقة ترشد في الموارد البشرية و الاقتصادية ، و القضاء على البنى المنهكة للميزانية التي ليست لها مردودية اقتصادية أو اجتماعية .
- توجيه فائض الميزانية إلى التنمية المستديمة التي تنطلق من تكوين الإنسان و تقديمه كأفضل أداة للتنمية ، و ذلك بإصلاح التعليم و الشؤون الاجتماعية ، و تعميم الخدمات الصحية ، و خدمات الماء و الكهرباء و الاتصال ، و التركيز على ضرورة مواكبة ذلك ببرامج اقتصادية محلية مدرة للدخل في المناطق المستهدفة .
- تفعيل هيئات الرقابة و التفتيش لمحاربة الفساد و التطبيق الصارم للقوانين في هذا المجال، و تفعيل دور منظمات المجتمع المدني المعنية بهذا المجال .
- تفعيل دور مؤسسة المعارضة، و دور الصحافة ، و فتح الاستثمار في مجال الإعلام أمام الجميع ، و تجشيع دوره الرقابي، بغية المساهمة في كشف الفساد و متابعة أداء الحكومات .
إسلمو أحمد سالم