دجوول بلدة عريقة تغفو بين التلال والنهر الذي يعانق عندها سهول شمامه ويروي مرابعها الخصيبة .. هنا تمتد حقول الزروع والسنابل الذهبية على مدى الأفق، وترعى قطعان الأبقار بزهو ودلال، بينما يترنم الرعاة بمزاميرهم، وهم يضعون على رؤوسهم تلك القبعات المزركشة والمميزة، ويحملون العصي على عواتقهم..
هنا، ظل الناس "أمة واحدة" في هذا البلد الطيب.. إنهم يتنفسون عبق التاريخ، ويتغنون بأساطير المجد المؤسسة لمدينتهم.. هنا تتوحد الطبيعة والثقافة لتشكلان معا وجبة مفضلة من صميم يوميات الأهالي..
دجوول أو بلدة الألف تلة، هي نفسها مهرجان مفتوح عبر الزمن والجغرافيا.. أهلها مسكونون بالروحانيات، وتقديس قيم المحبة والتآخي والتعايش والتسامح..
مهرجان دجوول الثقافي الذي افتتحه فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، يوم الجمعة الماضي، قد وحد المشاهد المتنوعة لصنوف التراث الثقافي المحلي، ووفر له إطارا ناظما، وقدمه -بكل ثرائه وألقه- للوطن وللعالم بالصوت والصورة..
هنا، كنت في كل مرة أنزل من السيارة، لأسلم على بعض الشيوخ والطاعنين في السن، وأتحدث إليهم، خاصة عندما كنت في الصباح، أبحث عن مقبرة البلدة لأعاين ضريح العلامة الحاج محمود باه، رحمه الله، قبل أن يزوره رئيس الجمهورية، مستعينا بخبرة ولسان مساعدي ممادو عمر لي، من المكتب الإعلامي لرئاسة الجمهورية..
وفي كل مرة، كان يخيل إلي أنني سألتقي في أزقة الحي القديم مع صمب كلاديو دجيكي، فارس مملكة “ساتيغي” ، وبطل الملحمة الشعرية الشهيرة التي ما يزال يترنم بها "إيگاون" الأمير وحافظو الذاكرة منذ القرن الثامن عشر إلى اليوم..
في هذه الأزقة، كان يخيل إلي أنني ربما ألتقي بالعالم والمجاهد الشيخ سليمان بال، مؤسس الدولة المامية في حوض النهر، الذي حارب العبودية وجدد في أمور الدين والعقيدة..
وهنا، وقفت مشدوها أمام ضريح العلامة الحاج محمود باه، العالم الرباني الذي أسس مدارس الفلاح في غرب إفريقيا، وكرس حياته لنشر اللغة العربية والعمل على تمكينها.. قرأت الفاتحة على روحه الطاهرة، وعلى روحي نجله البكر محمد الغالي، ونجله عبد الله محمود با، رحمه الله، وقد كان صديقي وعمل معي مكلفا بالإعلام في الوزارة الأولى في التسعينيات..
هنا، في أزقة البلدة القديمة، قبلة الأبطال والأساطير، تتوقع أن تلتقي في أي لحظة ب “كولي تنقلا با” الملك الفلاني، أو بالمجاهد الإمام “عبدول بوكار كان”.
وهنا أيضا في هذه الأزقة، استوقفني "حامدون مودين الله" ، بطل روايتي "لغز إنجيل برنابا"، ليسلم علي ويخبرني بأنه قادم للتو من بلدة "كومبالي" بمدينة "مقامة" على بعد كيلومترات قليلة من "دجوول"..
عرفته رغم تغير ملامحه بفعل الزمن والحياة..
و تذكرت ذلك الرجل الخلاسي من أب بولاري وأم بيظانية، الذي تخرج من جامعتي السوربون وأكسفورد، وعمل فترة طويلة من الزمن محافظا لقسم المخطوطات والكتب النادرة في مكتبة فيينا.
لقد قاد بنفسه ملحمة استرجاع المخطوطة النادرة لإنجيل برنابا ، بعد أن هربتها المافيا الدولية المتخصصة في سرقة ونهب التراث الثقافي للأمم والشعوب..
أخبرني "حامدون" بأنه جاء لحضور المهرجان الثقافي لدجوول وتقديم محاضرة حول أهمية الثقافة في صيانة وتعزيز الوحدة الوطنية والسلم الأهلي.. وسألني قائلا هل تمت ترجمة الرواية إلى الإنجليزية؟
محمد السالك ابراهيم مدير المكتب الاعلامي لرئاسة الجمهورية