المتابع لتصرفات الرئيس "عزيز" في الفترة الأخيرة لابد وأن يصيبه دوار شديد إذا ما حاول أن يربط تلك التصرفات بعضها ببعض، وأن يعطيها تفسيرا منطقيا على أساس أنها يمكن أن تساعد في تفسير وفي تحديد ما يفكر فيه هذا الرئيس.
ورغم أن عهد الرئيس "عزيز" كان قد ارتبط بالكثير من الألغاز والأسرار التي لم يتمكن الموريتانيون وإلى حد الآن من فك طلاسمها بشكل كامل إلا أنه ورغم ذلك فيمكننا القول بأن ما شهدته الأسابيع الماضية من ألغاز لم يكن مألوفا من حيث الكم، حتى وإن كان قد لا يصل من حيث درجة التعقيد إلى مستوى ألغاز أخرى كرصاصات "أطويلة" أو كصناديق "كمبا با" مثلا.
وإذا ما حاولنا أن نسمي الأشياء بمسمياتها المناسبة فإنه سيكون لزاما علينا أن نسحب من العام 2015 اسم عام التعليم، وأن نطلق عليه ومن الآن فصاعدا "عام الألغاز"، وذلك لما شهده مطلع هذا العام من ألغاز، وإليكم هذه العينة من ألغاز العام 2015:الوثيقة اللغز: شكلت وثيقة الوزير الأول للحوار لغزا كبيرا فهي وإن كانت من حيث الشكل مجرد وثيقة لا تحمل أي توقيع، إلا أنها في مضمونها قدمت وعودا ثورية بمناقشة كل القضايا التي كانت تطالب بها المعارضة الموريتانية، بل إنها فتحت المجال لنقاش قضايا لم تكن تخطر ببال المعارضين كما هو الحال مع الانتخابات الرئاسية المبكرة.فلماذا تم الإعلان عن تلك الوثيقة في مثل ذلك الوقت؟
ولماذا حملت هذه الوثيقة وعودا بنقاش كل القضايا دفعة واحدة خاصة وأن الإعلان عن الوثيقة كان قد جاء في ظروف طبيعية جدا لم يكن النظام يواجه فيها أي تهديد مباشر؟
قد يقول قائل، وأنا ممن قال بذلك، بأن السلطة قد بدأت تستشعر بخطورة الأزمات من حولها، فلو افترضنا بأن هذه السلطة التي لم تكن معروفة في الماضي باستباق الأزمات ولا باستشعارها عن بعد قد تغيرت وأصبحت تستبق الأزمات وتحتاط لها، فإذا ما افترضنا ذلك، فلماذا تصرفت السلطة من بعد الإعلان عن هذه الوثيقة بتصرفات غريبة قد لا تٌساعد في تهيئة الأرضية للحوار الذي دعت إليه الوثيقة، فإذا ما استثنينا مثلا تأجيل تجديد ثلثي مجلس الشيوخ، فإن كل القرارات التي اتخذتها الحكومة من بعد الإعلان عن الوثيقة لم تكن تصب في صالح الحوار.
الاختفاء اللغز: لقد تعودنا على اختفاء الرئيس عن الأنظار لمدة من الزمن قد تطول أو تقصر، فقد اختفى بعد إصابته برصاصات "أطويلة"، واختفى من بعد ذلك في العام الماضي وظهرت له صور وهو يؤدي مناسك الحج في حساب باسمه على "الفيسبوك".
الجديد هذه المرة هو أن الاختفاء لم يكن خارج الأراضي الموريتانية، ولم يكن لأسباب صحية على ما يبدو. فلماذا قرر الرئيس أن يعجل مجلس الوزراء عن موعده الأسبوعي؟
وهل يستحق السفر إلى صحاري "انشيري" و"تيرس" ذلك التعجيل؟
أم أن الرئيس قد فعل ذلك للتمويه على عملية اختفاء جديدة في فرنسا قد أطلنا زمانها؟
وإذا ما توقفنا عند الاختفاء في الصحاري الموريتانية فهل صحيح أن الصاحب في الاختفاء كان هذه المرة هو العمدة المثير للجدل صاحب أغلى عرق في شبه المنطقة أم أن الصاحب في الرحلة اللغز كان الكاتب والمفكر الكبير السيد "محمد يحظيه ولد أبريد الليل"؟
ولأن الشيء بالشيء يذكر، ولأن الألغاز تذكر بالألغاز فدعونا ننتقل من ألغاز الرئيس إلى ألغاز الكاتب المفكر، فلماذا لم تصدر جماعة "الرأي السياسي" بعد بيانها الشهير الذي أصدرته في ابريل 2014 ، والذي حذرت فيه من المجهول بيانا آخر بعد أن ساءت أوضاع البلاد كثيرا؟ ولماذا قررت هذه الجماعة أن تطلق منذ أيام موقعا تحليليا ناطقا بالفرنسية؟ ولماذا قرر رموز التيار البعثي أن يطلوا على الشعب الموريتاني بعد طول غياب من خلال نافذة باللغة الفرنسية؟
ألا يدعو ذلك لشيء من الاستغراب؟ ولماذا، وهذا هو أضعف الإيمان، لم يجعلوا لهذا الموقع نسخة موازية تترجم أفكارهم وآراءهم إلى اللغة العربية؟القرار اللغز: فجأة، وفي ظل انهيار أمني غير مسبوق، جاء القرار اللغز الذي قضى بسحب كل نقاط التفتيش التي كانت موجودة على الطرق الداخلية، مع الإبقاء على حاجزين فقط في عاصمة كل ولاية ومقاطعة، واحد للدرك، وثان للشرطة.هذا القرار تم تبريره بسعي السلطة القائمة لتوفير الراحة للمسافرين الذين قد ينزعجون في أسفارهم بسبب كثرة نقاط التفتيش ..
دعونا نصدق أن الرحمة قد تنزلت فجأة على قلب السلطة القائمة، وأن تلك الرحمة جعلتها تسحب نقاط التفتيش من أجل راحة المسافرين، ولكن يبقى السؤال : لماذا لم تخفض السلطة أسعار المحروقات رحمة بالمسافرين؟ ولماذا لا تفعل شيئا ما للتقليل من حوادث السير على "طريق الأمل" والتي تزهق سنويا الكثير من أرواح المسافرين؟
سحب الحواجز الأمنية من الولايات الداخلية قد صاحبه أيضا سحب لعناصر أمن الطرق من ولايتين من الولايات الثلاث المشكلة للعاصمة "نواكشوط"، وقد تم تعويضهم بعناصر من الشرطة، ومن المعروف بأن الرئيس "عزيز" لم يكن راضيا عن الشرطة، وقد انتزع منها الكثير من المهام والامتيازات بعد أن أصبح رئيسا، ومنحها لجهاز أمن الطرق، ذلكم الجهاز الذي يعد ظهوره إحدى التجليات لواحدة من أفكار الرئيس "الإبداعية" والمرتجلة.فهل سحب أمن الطرق من ولايتين من ولايات العاصمة قد جاء كاعتراف ضمني من الرئيس بفشل سياسته الأمنية، خاصة وأنه هو من كان قد ابتدع فكرة جهاز أمن الطرق لحل مشاكل الأمن في العاصمة؟وهل يمكننا أن نقول بأن الرئيس "عزيز" قد بدأ يعترف ـ ولو ضمنيا ـ بفشله سياسيا وأمنيا؟ وهل يمكننا أن نعتبر بأنه إذا ما كانت وثيقة الوزير الأول للحوار قد شكلت اعترافا ضمنيا بالفشل السياسي، فإن ظهور الشرطة على شوارع العاصمة قد شكل هو الآخر اعترافا ضمنيا بالفشل الأمني؟
وهل يمكننا أن نشبه أمن الطرق الذي ابتدعه الرئيس "عزيز" لتعويض الأدوار الأمنية للشرطة التي لم يكن راضيا عنها بحركة "إيرا" التي تألقت في عهده والتي حاول الرئيس أن يجعل منها بديلا للمعارضة التقليدية، على الأقل، في الانتخابات الرئاسية الماضية؟ وهل يمكننا أن نربط بين هذا السخط المفاجئ الذي أظهره الرئيس "عزيز" مؤخرا على قطاع أمن الطرق بذلك السخط الذي أظهره في وقت سابق على حركة "إيرا" وعلى رئيسها المعتقل؟
وهل يعود سبب السخط المفاجئ على جهاز أمن الطرق بسبب فشله في تعويض الشرطة التي لم يكن الرئيس "عزيز" راضيا عنها؟ و في المقابل فهل يعود سبب سخط الرئيس المفاجئ على حركة "إيرا" بسبب فشلها في تعويض المعارضة التقليدية التي أراد الرئيس أن يغيبها وأن يقصيها من المشهد السياسي؟وهل يمكننا أن نشبه المعارضة الموريتانية بالشرطة الوطنية، وذلك لأن كليهما كان قد تم إذلاله وتهميشه في عهد الرئيس "عزيز"؟ وهل يجوز لنا أن نستبشر خيرا للمعارضة الموريتانية، فنتوقع لها أن تظهر مستقبلا في الإدارات وفي المجالس المنتخبة كما ظهرت الشرطة أخيرا، وبعد طول غياب، وهي تنظم حركة المرور على شوارع العاصمة؟المدير اللغز : من الألغاز التي لم أستطع أيضا أن أفك طلاسمها يأتي لغز تمسك الرئيس بمدير "اسنيم"، خاصة وأن الرئيس كان قد عرف بالتخلي عن أصدقائه من قبل خصومه كلما أحس بأنهم قد أصبحوا يشكلون عليه عبئا ثقيلا.فلماذا يصر الرئيس "عزيز" على الاحتفاظ بمدير "اسنيم" رغم أن هذا المدير وبتصرفاته الطائشة قد يتسبب في انهيار شركة "اسنيم"، وهو ما سيشكل قطعا كارثة اقتصادية كبرى على البلاد؟فأن يستمر إضراب عمال "اسنيم" لأسبوعين كاملين في هذه الظرفية الحرجة، ودون أن تلوح في الأفق أي محاولة جادة من الحكومة لمحاورة المضربين، فإن ذلك يمكن أن نعتبره لغز الألغاز.
وهناك ألغاز أخرى ظهرت في الفترة الأخيرة، وقد لا ترتبط بشكل مباشر بالسلطة القائمة، ولكنها تحتاج هي أيضا لمن يفك طلاسمها، ومن بين تلك الألغاز: ارتفاع معدل الانتحار في "أنبيكت لحواش"، ورفض زعيم "أفلام" الانضمام إلى منسقية الأحزاب والمنظمات المدافعة عن الزنوج وذلك باعتبارها منسقية قامت على أساس عرقي، هذا بالإضافة إلى السلمية التي ظهر بها نشطاء "إيرا" في احتجاجاتهم الأخيرة، وهي سلمية اكتست ثوبا تقليديا وثقافيا جذابا لابد وأنه سيستقطب لهذه الحركة الكثير من الأنصار الجدد إن هي استمرت على هذا الأسلوب النضالي الجديد الذي يحاول أن يضفي بعدا ثقافيا وتراثيا على أنشطة احتجاجية ذات طابع سلمي.حفظ الله موريتانيا..