هناك جملة من الأخطاء الشائعة التي يقع فيها البعض كلما أراد أن يتحدث عن الحوار، ولعل من أهم تلك الأخطاء ومن أكثرها تكرارا وشيوعا ما سيتم الحديث عنه من خلال النقاط التالية:
1 ـ هناك من يكرر دائما بأن السلطة الحالية قد خدعت المعارضة الموريتانية في عدة حوارات،
وهذا غير صحيح، إذا ما كان المقصود بالمعارضة هو المعارضة المنخرطة الآن في المنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة، والتي كانت من قبل ذلك منخرطة في منسقية المعارضة . والحقيقة أن السلطة قد خدعت المعارضة مرة واحدة، وكان ذلك في حوار "داكار"، ولأسباب وظروف قاهرة يمكن تفهمها. أما بعد ذلك فلم يحدث أن تمكنت السلطة القائمة من خداع المعارضة من خلال أي حوار، ولكنها ظلت تخدعها بطرق أخرى، فالمعارضة من بعد حوار "داكار" ظلت ترفض دائما المشاركة في أي حوار تدعو له السلطة، أو تقبل بالمشاركة ولكنها تنسحب عندما تتأكد من عدم جدية الحوار، ويمكنكم أن تتأكدوا من ذلك بالعودة إلى أرشيف الحوارات السابقة : حوار السلطة مع الأحزاب المشكلة للمعاهدة والذي ورفضت المنسقية المشاركة فيه ـ الحوار الذي سبق انتخابات 23 نوفمبر التشريعية والبلدية ـ الحوار الذي سبق انتخابات 21 يونيو الرئاسية.
إن الضربات الموجعة التي تلقتها المعارضة الموريتانية منذ الانقلاب على "ولد الطايع" وإلى يومنا هذا لم تكن بسبب مشاركة هذه المعارضة في حوارات مع السلطة، وإنما كانت نتيجة لتناوب بعض أحزابها على إغاثة السلطة كلما وجدت السلطة نفسها في مأزق حقيقي وفي موقف حرج جدا، ولقد تكرر ذلك في مرات عديدة لعل من أبرزها : موقف التحالف الشعبي فيما بين الشوطين من رئاسيات 2007، موقف "التكتل" من انقلاب السادس من أغسطس 2008، موقف "تواصل" من انتخابات 23 نوفمبر التشريعية والبلدية.
2 ـ من الأخطاء الشائعة أيضا هو أن البعض يركز على الشروط والضمانات التي يجب أن تقدمها السلطة للمعارضة من أجل القبول بالمشاركة في الحوار، وينسى أن هناك شروطا أساسية و ضمانات ذاتية إن لم تتوفر لدى المعارضة الموريتانية فإن الحوار لن يعود بفائدة لا على المعارضة ولا على الديمقراطية حتى ولو استجابت السلطة القائمة لكل الشروط والضمانات التي ستطلب منها.
إن رفض الحوار مع الاستعداد لتقديم ما يتطلبه ذلك الرفض أي الاستعداد للتصعيد ضد السلطة القائمة قد يكون قرارا صائبا وسليما، ولكن مثل ذلك القرار لن تكون له أهمية في ظل غياب الإجماع. ونفس الشيء يمكن أن نقوله عن القبول بالحوار فهو أيضا قد يكون قرارا صائبا وسليما، ولكنه يحتاج أيضا إلى إجماع، والإجماع هنا لا يعني أن تتطابق الآراء، فذلك لن يحصل أبدا، وإنما يعني بأن تلتزم الأقلية في المنتدى برأي الأغلبية. إن خروج المنتدى بموقف موحد من الحوار سواء كان بالقبول أو بالرفض لابد له من إجماع لكي يأتي ذلك الموقف بنتائج ملموسة، ومن يُخِل بذلك الإجماع عليه أن يعلم بأنه قد خدم السلطة القائمة وقد قدم لها أعظم خدمة، وبأنه قد خذل الديمقراطية في لحظة حرجة. كما أن إجماع المنتدى على أي قرار سيعزز من مكانة المنتدى، وسيزيد من مصداقيته حتى لدى أولئك الذين فقدوا ثقتهم بالمعارضة وبتكتلاتها الهشة والتي كثيرا ما تظهر هشاشتها كلما مرت البلاد بمرحلة سياسية حرجة تتطلب موقفا معارضا قويا وموحدا.
3 ـ لقد أصبح البعض يتحدث وكأن القبول بالحوار سيترتب عليه وبشكل تلقائي تعديل الدستور خاصة في مادته المتعلقة بسن الترشح أو بعدد المأموريات، وهذا غير صحيح. ما يمكن قوله هنا هو أن هذه المادة ليست بالمحصنة دستوريا فقط، بل إنها قد أصبحت محصنة شعبيا، وذلك بعد أن أصبح من الواضح بأن هناك إجماعا شعبيا على رفض أي تعديل لتلك المادة. ولقد عبر عدد كبير من الأحزاب السياسية عن رفضه الكامل لأي تعديل على تلك المادة، حتى أن قادة من حزب التحالف الشعبي التقدمي الذي جاء منه ذلك الاقتراح بتعديل المادة قد أكدوا بأن الرئيس "مسعود" لن يتمسك بمطلب تعديل تلك المادة إذا ما كان هناك من يرفض تعديل تلك المادة .
إن ما يمكن أن يثير القلق حقا هو أن يمنح الحوار فرصة للرئيس "عزيز" لكي يربح سنة أو سنتين إضافيتين على مأموريته الثانية، وفي اعتقادي بأنه إذا ما تمكنت المعارضة من أن تدير الحوار بشكل جيد فإن الرئيس "عزيز" قد يخسر ما تبقى من مأموريته الثانية، بدلا من أن يربح سنة أو سنتين، خاصة وأن الدستور لا يجيز له أن يشارك في أي انتخابات رئاسية مبكرة.
4 ـ هناك من يتحدث عن الحوار وكأنه سيقتصر على القضايا السياسية والانتخابية، ومع أنه لا أحد يستطيع أن ينكر بأن القضايا السياسية والانتخابية ستشكل العناوين البارزة للحوار القادم، إن هو انطلق، ولكن ذلك لا يعني بأن القضايا الأخرى المرتبطة بالوحدة الوطنية وبالتعايش وبالعبودية ستغيب عن هذا الحوار. إن هناك أقطابا في المنتدى ليست معنية بشكل مباشر بالقضايا السياسية والانتخابية (قطب المجتمع المدني، قطب النقابات) وإنما هي معنية بقضايا أخرى، وهذه الأقطاب تعمل الآن من أجل أن تكون القضايا التي تشغلها حاضرة وبقوة في أي حوار قادم.
5 ـ كثيرا ما يُظهر البعض تخوفا من أن يكون كل القصد من الحوار القادم هو أن تتجاوز السلطة القائمة بعض الأزمات التي تهددها، ويعتقد أولئك ولهم الحق في ذلك بان السلطة إذا ما تجاوزت تلك الأزمات فإنها ستتنكر للحوار ولنتائجه إن كان قد توصل لنتائج. هذا تخوف مشروع، وفي محله، ولا أحد يستطيع أن يقلل من وجاهته، ولكن ما يتجاهله أولئك هو أن الحوار سيخلق أيضا للسلطة مشاكل قوية مع موالاتها إذا ما تمت إدارته بمهنية وباحترافية من طرف المعارضة.
إن مجرد إعلان السلطة عن استعدادها لإطلاق حوار على أساس ما جاء في وثيقة الوزير الأول يشكل في حد ذاته اعترافا ضمنيا منها بفشل انتخابات 23 نوفمبر التشريعية وانتخابات 21 يونيو الرئاسية، وبأن النسخة "المتطورة" من الديمقراطية التي عرفتها بلادنا خلال السنوات الست الماضية لم تكن متطورة، وقد أصبح واضحا بأنها تحتاج إلى تصحيح وتنقيح، ومجرد الاعتراف بذلك من طرف السلطة يشكل في حد ذاته مكسبا للمعارضة الموريتانية.
يضاف إلى ذلك أن الحوار سيؤدي إلى تآكل ما تبقى من شعبية الرئيس "عزيز". ويمكننا أن نقسم شعبية الرئيس "عزيز" إلى ثلاثة أقسام، فالقسم الأهم من تلك الشعبية يتمثل في ذلك الدعم الصادق الذي تولد عند الكثير من الموريتانيين بسبب رفع شعارات جذابة كشعار الحرب على الفساد ورئاسة الفقراء، والتغيير البناء، وتجديد الطبقة السياسية، وموريتانيا الجديدة....إلخ، ولكن هذا الدعم قد تراجع كثيرا عندما تأكد للجميع، وبعد ست سنوات من الحكم، بأن تلك الشعارات لم تكن إلا مجرد شعارات خداعة. أما القسم الثاني فيتعلق بدعم الشخصيات الوازنة، وهذه قد تراجع أيضا دعمها، وذلك بعد أن تأكدت من أن الرئيس "عزيز" ليس على استعداد لأن يشرك الآخرين معه، لا في المغانم، ولا حتى في الرأي والمشورة. أما القسم الثالث فهو يتعلق بأولئك الذين جبلوا على دعم السلطة، وكثير من هذه الطائفة يوجد الآن في المجالس المنبثقة عن انتخابات 23 نوفمبر، ولاشك أن هذه الطائفة ستصدم كثيرا إن انطلق الحوار، وإن أعلن عن انتخابات مبكرة، وذلك لأن جل من في هذه الطائفة كان قد فاز بشق الأنفس، وبإنفاق الكثير من ماله الخاص، وكان يأمل بأن يستعيد ما أنفق من خلال مقعده الانتخابي.
يقول معارضو الحوار بأن كل من يدافع عن الحوار إنما يتحرك وفق "أجندة عزيز"، ولكنهم ينسوا بأن كل من يرفض الحوار هو أيضا يتحرك وفق "أجندة موالاة عزيز".
إن رفض الحوار من طرف المعارضة سيزيد من تماسك الموالاة، وسيمنح للرئيس "عزيز" شعبية ما كان ليحلم بها بعد ست سنوات عجاف. وإن قبول الحوار، وبضمانات طبعا، سيحدث شرخا كبيرا بين الرئيس "عزيز" وما تبقى من موالاته، وقد يكون ذلك بمثابة الخطوة الأولى في طريق إسقاط نظامه.
حفظ الله موريتانيا..