يخوض حزب "الإنصاف" المصنف (نظريا على الأقل) على أنه الذراع السياسي لنظام الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني؛ غمار أول سباق انتخابي تشريعي وجهوي وبلدي منذ انتخاب هذا الأخير رئيسا للجمهورية قبل زهاء أربع سنوات، بعدما شكل الدعامة السياسية لسلفه الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز تحت تسمية "الاتحاد من أجل الجمهورية" على مدى عشر سنوات. استحقاق انتخابي لم يفت على الرئيس ولد الشيخ الغزواني وصفه بأنه "محطة بالغة الأهمية في تجربتنا السياسية المعاصرة"، وبأنه "استثناء لم يتقدم له نظير في تاريخ البلاد"؛ وذلك في رسالته إلى كافة الفرقاء السياسيين وجمهور الناخبين عشية انطلاق الحملة الانتخابية الحالية.
ولئن كان هذا التوصيف منسجما مع نهج الانفتاح على مختلف الفرقاء السياسيين وأسلوب تهدئة المناخ السياسي وإرساء دعائم الثقة بين السلطة والقوى السياسية الوطنية، على تباين مواقفها ورؤاها وخياراتها؛ كما تعهد به الرئيس في خطاب إعلان ترشحه وجدده في خطاب تنصيبه، فإنه دليل ـ في الآن ذاته ـ على بلوغ حالة الاحتقان السياسي والشعور العام بانحياز سلطة صنع القرار في البلد لطرف سياسي دون غيره، مستويات باتت تستوجب تدخلا عاجلا وناجعا يتيح نزع فتيل التوترات السياسية وحالة الاستياء المتنامية في مختلف الأوساط الشعبية، والناجمة عن بعض السياسات الموروثة عن مرحلة ما قبل أغسطس 2019، و فاقمها عدم بروز مؤشرات جدية على التغيير الفعلي خلال أولى سنوات العمل ببرنامج "تعهداتي" وملحقاته.
أدى هذا التراخي الملحوظ في تجسيد تعهدات الرئيس المنتخب، مع بروز عوائق موضوعية خارجة عن إرادة السلطة وذات انعكاسات عالمية بالغة التعقيد مثل جائحة "كوفيــد ـ 19" والحرب في أوكرانيا، إضافة لأخرى محلية أبرزها نقص الأمطار وشح الموارد في مناطق تشكل التنمية الحيوانية أساس اعتماد سكانها المعيشي مثل ولاية الحوض الشرقي، إلى تصاعد حالة التذمر والشعور بنوع من خيبة الأمل وصلت أصداؤها وارتداداتها محيط مركز القرار في نواكشوط.
ولد محمد لقظف يعيد المياه لمجاريها
وضعية جعلت رئيس الجمهورية يبادر بإيفاد وزيره الأمين العام للرئاسة، د. مولاي ولد محمد لقظف؛ الذي هو ـ في الآن ذاته ـ أحد أبرز أطر ولاية الحوض الشرقي ومن أكثرهم مصداقية وبعدا عن الصراعات والتجاذبات المحلية، في مسعى لتهدئة النفوس واستعادة ثقة السكان؛ حفاظا على جو التوافق الوطني وروح الإجماع التي طبعت بدايات المأمورية الرئاسية الحالية وما حملته تعهدات برنامجها من آمال ووعود تجلت صدقيتها عبر مختلف السياسات والبرامج الاجتماعية غير المسبوقة التي أطلقها الرئيس وباشرت حكومته الأولى العمل على تجسيدها.
جاب ولد محمد لقظف كل مقاطعات الحوض الشرقي حيث لقي ترحيبا واسعا وتجاوبا كاملا من مختف الفاعلين المحليين من أطر ومنتخبين ووجهاء، وعقد اجتماعات موسعة ومطولة مع هؤلاء استمع خلالها لمشاغلهم وتطلعاتهم ومآخذهم على السلطات العمومية، محليا وجهويا ووطنيا؛ كما نقل لهم التزامات الرئيس وتعهداته بخصوص التنمية المحلية وبرامج دعم الفئات الهشة وتطوير البنية التحتية الطرقية والصحية والتعليمية.
كما سجل كل الملاحظات والمطالب التي عبر عنها هؤلاء والتي تمحورت حول رصد مشاغل وتطلعات السكان بخصوص الولوج إلى الخدمات الأساسية؛ حيث نقل أبلغهم بمدى حرص رئيس الجمهورية على تنظيم انتخابات نزيهة وشفافة انطلاقا من القرارات المتعلقة باعتماد لجنة انتخابية وتوسيع النسبية، وتحديد لائحة خاصة بالشباب، سبيلا إلى تنويع الهيئات المنتخبة لترسيخ الديمقراطية في البلد، كما طمأنهم بخصوص الحوار السياسي الجامع بإشراف وزارة الداخلية واللامركزية ومشاركة 25 حزبا، مع توفير كل ضمانات شفافية ونزاهة الاستحقاقات الانتخابية؛ مؤكدا أن السكان هم من سيقترحون مرشحيهم؛ ويختارون ممثليهم.
وفور تسلمه تقرير وزيره الأمين العام وموفده للولاية، واطلاعه على ما تضمنه من تشخيص موضوعي ودقيق للوضعية العامة بمختلف جوانبها، بادر الرئيس ولد الشيخ الغزواني باتخاذ جملة إجراءات عكست مستوى نجاح المهمة وشمولية الحلول المقترحة انطلاقا من تطلعات المعنيين وانشغالاتهم التنموية.
من ذلك على سبيل المثال تشكيل لجنة وزارية مكلفة بمتابعة تنفيذ المشاريع التنموية بولاية الحوض الشرقي تضم وزراء القطاعات المعنية بمختلف القضايا التي تم طرحها (المياه، الصحة، التجهيز والنقل، التنمية الحيوانية، الزراعة، الإسكان والعمران...إلخ) وأوكلت رئاستها، بطبيعة الحال، للوزير الأول حيث عقدت أول اجتماع لها بحضور الوزير الأمين العام للرئاسة الذي أطلعها على نتائج جولته الميدانية داخل الولاية، ووضعية المشاريع التنموية ومجمل المطالب التي عبر له عنها السكان، وكذا الحلول الكفيلة بتلبية تلك التطلعات، مع تشخيص لمجمل العراقيل والتحديات الواجب تجاوزها لضمان نجاح استراتيجيات النمو المتسارع والرفاه المشترك، كما حددها برنامج رئيس الجمهورية وعلق عليها الجميع آمالهم في تحقيق التنمية المحلية المستدامة.
وزراء "مغاضبون" !
مع بدء التحضير الأولي لخوضه غمار انتخابات مايو 2023 التشريعية والجهوية والبلدية، أوفد الحزب الحاكم، غداة تغيير تسميته من "الاتحاد من أجل الجمهورية" إلى "الإنصاف"، بعثات إلى كافة ولايات البلاد ومقاطعاتها، من أجل التشاور مع القيادات الحزبية المحلية والفاعلين السياسيين في مختلف الدوائر الانتخابية سبيلا إلى تجسيد التزامات قيادة الحزب وتعهدات رئيس الجمهورية (المرجعية السياسية للحزب) عبر اعتماد لوائح تمثل خيار القواعد الحزبية وتحظى بأكبر قدر من التوافق إن تعذر الإجماع.
تلقت البعثات الحزبية اقتراحات من كافة القوى المحلية بشأن مرشحيها لترشيحات الحزب، وعادت بنتائج جولاتها إلى القيادة المركزية في نواكشوط، حيث تم الإعلان عن كافة اللوائح والأسماء المرشحة لحمل لواء "الإنصاف" في السباق الانتخابي المرتقب؛ لتنفجر موجة استياء عارمة داخل الأوساط الحزبية في مناطق متفرقة من البلاد، واعتبر أغلب "المغاضبين" أن العديد من الأسماء التي تم اقتراحها على بعض البعثات الحزبية ونالت قدرا كبيرا من التزكية من قبل الأوساط الحزبية القاعدية لم تظهر ضمن ترشيحات حزب السلطة؛ فجاءت أول ضربة للحزب وحملته من عاصمة الحوض الشرقي بإعلان فيدرالي "الإنصاف" هناك، القطب ولد الشيخ سعدبوه، استقالته من منصبه الحزبي؛ معللا قراره في رسالة الاستقالة الموجهة لرئيس الحزب محمد ماء العينين ولد أييه بقوله: "نظرا لبعض القضايا التى لا يتسع المقام لذكرها، فانى لم أعد أستطيع المواصلة معكم في هذا المسار".
ومع انطلاق الحملة الانتخابية للحزب في مواجهة عشرات اللوائح المنافسة التي تقدمت بها 24 تشكيلة سياسية من المعارضة والأغلبية، وذلك بإشراف منسقيات جهوية أسندت إدارة بعضها لوزراء في الحكومة وتولى إدارة بعضها الآخر موظفون سامون بينهم المستشار برئاسة الجمهورية ذ. محمد محمود ولد أمات؛ صاحب الرصيد النضالي المشهود داخل أبرز أحزاب المعارضة على مدى أكثر من ثلاثة عقود، حيث تم تكليفه بقيادة حملة الحزب الحاكم على مستوى داخلة نواذيبو.وفيما اعتمد منسقو حملة الحزب من أعضاء الحكومة خطابا اتسم بأسلوب التخوين في حق المغاضبين الذين ترشح بعضهم تحت يافطات أحزاب مصنفة ضمن الأغلبية الداعمة للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، وتبنوا لغة الترهيب والترغيب تجاه هؤلاء؛ امتلك ولد أمات الشجاعة ليخاطب مغاضبي العاصمة الاقتصادية والدوائر التابعة لها بأسلوب سياسي أكثر احتراما ومسؤولية، فاعتذر لكل من شعر بأن الحزب ظلمه أو أخطأ بحقه، من كتل ومبادرات وشخصيات تضررت من ترشيحات حزب "الإنصاف" للانتخابات المرتقبة، وتعتقد أنها ظلمت من قبل لجان الفرز أو التقييم. في المقابل، اعتمد بعض الوزراء المكلفين بإدارة منسقيات حزب السلطة في ولايات مثل الحوض الشرقي واترارزة ولبراكنة خطابا اتسم بالحدة تجاه المغاضبين الذين دفعتهم خيارات الحزب غير المنصفة وغير الموفقة، من وجهة نظرهم، للترشح من أحزاب أخرى، حيث اعتبر وزير الزراعة أن أي تعثر انتخابي يتعرض له الحزب في ولاية اترارزة "ستتحمل الولاية كلها المسؤولية الكاملة عنه"، فيما ساوى زميله منسق الحملة على مستوى ولاية لبراكنة بين أحزاب الأغلبية الداعمة لرئيس الجمهورية وبين أحزاب المعارضة بما فيها تلك الأشد راديكالية في مواقفها المناوئة له؛ حين قال في مهرجان انتخابي في مدينة مال بولاية لبراكنة إن حزب "الإنصاف" يتنافس مع أحزاب الأغلبية وأحزاب المعارضة بنفس الدرجة"، محذرا من أن من لا يصوت للحزب لا يدعم الرئيس.أما منسق حملة ولاية الحوض الشرقي؛ ;وزير التجهيز والنقل، فتوعد ناخبي الولاية من أطر ووجهاء وقواعد شعبية بأنه ستتم مراقبة وتحليل نتائج مكاتب الاقتراع لمحاسبة من لم يصوت لحزب الإنصاف !..
ثم جاء الوزير الأول، ليتبنى نفس الطرح القائم على منطق الترغيب والترهيب والوعيد لمن يصوتون لغير مرشحي الحزب الحاكم من المغاضبين المحسوبين عليه..
خطاب زاد من حدة التذمر الذي كان يفترض، حسب عديد المراقبين، أن يساهم في خفضه أو حلحلة التأزم الناتج عن سوء التقدير لدى الجهات المسؤولة عن ترشيحات الحزب الحاكم، وفتح الباب أمام خيارات "انتقامية" مثل الترشح عن أحزاب موالية أو معارضة لم يتردد بعضها في الترحيب بكل مغاضب أرغمته خيارات حزبه وخطاب منسقي حملته على اغتنام أية فرصة تتيح له إثبات أحقيته بالترشيح، من جهة؛ ويجد فيها الحزب الذي يعتمد ترشيحه ضالته المنشودة لتحقيق أي مكسب انتخابي، خاصة حين يكون بهزيمة حزب السلطة، من جهة ثانية.كما عاد بمستوى التعاطي مع المشهد السياسي إلى عقلية الحزب الواحد ونهج الأحادية ومفهوم "حزب الدولة"؛ في تناقض صارخ مع الإرادة المعبر عنها في رسالة رئيس الجمهورية عشية انطلاق الحملة الانتخابية؛ والتي جاء في إحدى فقراتها: "أود هنا، اغتناما للفرصة ، أن أنبه إلى أن هذا الهدوء، وهذه العلاقات الطبيعية بين مختلف مكونات ساحتنا السياسية، تشكل في حد ذاتها مكسبا يلزمنا جميعا صونه والحفاظ عليه؛ فلنختلف باحترام ، ولنعبر عن تباين آرائنا برقي، ولنتنافس بقوة ، لكن في إطار من المسؤولية الأخلاقية والالتزام الأدبي".
.
بقلم / السالك ولد عبد الله