بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبعد:
فإن الله سبحنه وتعالى حرم السخرية والاستهزاء، والتنابز بالألقاب والطعن في الأنساب والأحساب، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بيس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون}.
والسخرية هي الاحتقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء، وكله ممنوع في الشرع، [مختصر منهاج القاصدين: ص158].
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه).
فحرمة المسلمين عظيمة، وحقوقهم أكيدة، وأعراضهم محرمة، فليحذر المسلمون من الوقوع في أعراض المسلمين ، وليحذروا من السخرية والاستهزاء بالمسلمين، وليحذروا من الطعن في أنساب المسلمين وأعراضهم، فهذه كلها كبائر عظيمة عند الله، ولاسيما إذا أطلقت على المجموعات ولم تقتصر على الفرد.
ومما يزيد الأمر خطورة وقبحا كون تلك المجموعات فيها الصالحون والعلماء والأولياء والمسلمون البسطاء، ولكل هؤلاء حرمة عند الله تعالى وإن كانت تتفاوت، والأخطر من هذا كله أن يكون مع ذلك الافتراء على الله عز وجل، والكذب على رسوله صلى الله عليه وسلم كما، حكي لنا عن بعض الناس أنه يقول في طائفة "لمعلمين" الخيرةِ العريقة في المجتمع الموريتاني، التي تمثل إحدى أهم مكونات النسيج الاجتماعي الموريتاني.
وانطلاقا من نصرة الحق، وهروبا من السكوت على الباطل ودفاعا عن أعراض المسلمين قررت أن أتعرض لكل واحدة من هذه المقولات التي نقلت إليَّ لأرد على كل واحدة منها على حدتها:
1- نقل إلي أن أحد شيوخ المحاظر في انواكشوط كان يشرح لطلابه شروط إمام الصلاة ومستحباته، وذكر من ذلك أن يكون الإمام شريف النسب، وقال: "لا يكون من لمعلمين مثلا"، وإنني أربؤ بكل من له حظ من العلم أو الدين ولو قل أن يقول مثل هذا، وأرجو أن لا يكون ذلك صحيحا، وإذا كان صحيحا، فإني أقول: إن هذا القول باطل ولا أصل له، ولا يقره عقل ولا شرع، فمعيار التقدم للمناصب الشرعية من إمامة أو غيرها هو الدين والعلم، قال البخاري في صحيحه: باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة.
وأخرج مسلم في صحيحه من رواية ابن مسعود الأنصاري مرفوعا: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانت قراءتهم سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة، فإن كانت هجرتهم سواء فليؤمهم أكبرهم سنا).
فالتأهل للمناصب الشرعية والتقدم لها إنما يكون بالعلم والدين والفضل لا بالنسب، فالمتصف بالعلم والدين هو الفاضل، وهو المتأهل للإمامة كائنا من كان، وربنا سبحنه وتعالى يقول: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}.
وأقوال أيمة العلم والدين صريحة في ذلك، قال ابن أبي زيد في الرسالة: "يؤم القوم أفقههم وأفضلهم".
قال جسوس: يعني أن الإمامة خطة شريفة، وفيها أجر عظيم، لأن المأمومين في صحيفة إمامهم، لأنه متبوعهم وهم أتباعه، وهي رياسة في الدين {واجعلنا للمتقين إماما}، فيختار لها أعلى الناس منزلة في الدين، وهو أفضلهم ديانة وأكثرهم فقها اهـ.
ولم نجد في حديث ولا في كلام أحد من أهل العلم أن الإمامة يشترط فيها نسب رفيع أو وضيع، أو أنها تكون في فئة دون أخرى، وما يذكره الفقهاء من اعتبار النسب في هذا المجال في غاية البساطة، وتطرقوا له في موضعين: أحدهما: أن ابن الزنا يكره اتخاذه إماما راتبا فقط مخافة أن يتكلم فيه الناس، وكذلك مجهول الأب، والمراد عندهم بمجهول الأب ومجهول النسب اللقيط الذي لا يعرف له أب.
وثانيهما: في ذكر ما يقع به الترجيح بين المتأهلين للإمامة، فيرجح أولا بزيادة الفقه، ثم بزيادة الحديث، ثم بزيادة القراءة، ثم بزيادة العبادة، ثم بزيادة السن في الإسلام، ثم بعد التساوي في هذا كله يرجح بالنسب، فانظروا في درجة الترجيح بالنسب ما أنزلها في سلم الترجيح، ومع ذلك اختلفوا في المراد بها، هل هو شرف النسب؟ فيقدم القرشي على غيره، أو هو معرفة النسب فقط؟ فيقدم معروف النسب على مجهوله، أي معروف الأب على مجهول الأب كاللقيط، وتراجع لذلك شروح المختصر عند قول خليل: (ثم زائد فقه) الخ.
هذا من ناحية فقه الإمامة، وقد ظهر منه عدم اشتراط النسب في الإمام، وضعف دوره في الترجيح بين المتأهلين للإمامة.
أما من ناحية تنزيله على الواقع، فإن الخطأ في تنزيله كان أفظع وأشنع، فتعميم الحكم على شريحة بكاملها، لا يحصى عددها، ولا يجمعها أب وفيها أهل العلم والفضل والشرف، بأنها ليست كلها من أهل النسب الرفيع في غاية الجور والسقوط، وفيه أيضا بطر الحق وغمط الناس، وفيه التجني على هذه الشريحة.
والحق الذي يجب أن يقال أن هذه الشريحة كسائر شرائح المجتمع الموريتاني، جمعت بينها الحرفة فقط، ثم تفاوتت بعد ذلك في الفضل، فمنها الأسر الرفيعة النبيلة الشريفة، وفيها العلماء والصلحاء والأدباء والأذكياء النبهاء، وفيها الأيمة الأتقياء الذين لم يطعن أحد من أهل هذا البلد في إمامتهم، كنظرائهم من الشرائح الأخرى.
إذ المدار على أهلية العلم والدين، فمن اتصف بها تصدَّر ومن لم يتصف بها تأخَّر، ولم نعلم في تاريخ هذا البلد أحدا من أهل العلم اعترض على إمامة شخص من أهل الدين والصلاح لكونه من هذه الشريحة أو غيرها، بل الذي نعرفه خلاف ذلك، فقد وجدت بخط جدي شيخنا محمد المختار بن امباله رسالة وجهها إلى أحد أمراء أهل لمحيميد، وهو سيد امحمد بن محمد محمود، يأمره فيها بأن يجعل أحماد بن الجيل، وهو من شريحة "لمعلمين" إماما راتبا في مسجده، وذلك لما يتصف به من الاستقامة والصلاح، وأخبرني والدي شيخنا امحمد بن شيخنا محمد المختار بن امباله بأنه امتثل أمره، ورتبه إماما في مسجده، ويعرفه هو إماما فيه يصلي بالناس، وكان يثني على خلقه ودينه واستقامته.
ووجدت أيضا في كلام منسوب للشيخ بَايْ ابن الشيخ سيد محمد بن الشيخ سيد المختار الكنتي يتعلق بنسب "لمعلمين" قال فيه: وما قيل عن الحدادين بديهي البطلان، إذ من المعلوم أنهم لا ينتسبون لأب واحد، وإنما جمعتهم الحرفة، فمنهم الشريف الصحيح النسب، ومنهم العربي القح، وحال أكثرهم أنهم من السودان، فمن أبطل شهادة من ظهرت عدالته منهم أو أبطل إمامته فقد كذب وضل وقال ما لا علم له به اهـ.
2- نقل إلي عن أحد آخر أنه مثل للتابعين غير أولي الإربة من الرجال بـ"لمعلمين"، وهذا أيضا كسابقه أرجو أن لا يكون صحيحا، إذ لا ينبغي لمن يتكلم في العلم ولاسيما في كتاب الله عز وجل أن يصدر منه مثل هذا، وذلك لما فيه من الخطإ والخطر، الخطأ في الفهم والعلم، والخطر على الدين والمجتمع.
أما الخطأ في فهم المراد من الآية فواضح لأنها ورادة فيمن لا حرج على النساء فيه لعدم حاجته فيهن وعدم ميله إليهن، ولذلك تجد تاويلاتها الكثيرة ترجع كلها إلى هذا المعنى، فقيل إن المراد بغير أولي الإربة الأحمق الذي لا حاجة به إلى النساء، وقيل الأبله وقيل العنين، وقيل الخصي، وقيل المخنث، وقيل الشيخ الكبير والصبي الذي لم يدرك، وقيل الرجل يتبع القوم فيأكل معهم ويرتفق بهم، وهو ضعيف لا يكترث للنساء ولا يشتهيهن.
ذكر هذه الأقوال كلها القرطبي في تفسيره، وقال: إنها كلها متقاربة، وإنها تجتمع فيمن لا فهم له ولا همة ينتبه بها إلى أمر النساء.
وقال الفخر الرازي في تفسيره إنه يجب أن يحمل المراد بهذه الآية على من علم منه أنه لا إربة له في سائر وجوه التمتع، إما لفقد الشهوة، وإما لفقد المعرفة، وإما للفقر والمسكنة، فعلى هذه الوجوه الثلاثة اختلف العلماء، فقال بعضهم: هم الفقراء الذين بهم الفاقة، وقال بعضهم: المعتوه والأبله والصبي، وقال بعضهم: الشيخ وسائر من لا شهوة له، ولا يمتنع دخول الكل في ذلك اهـ.
ومن تتبع أقوال المفسرين كلها وجدها راجعة إلى هذا المعنى الذي هو عدم الاكتراث بالاستمتاع بالنساء، ولا يمكن أن يوجد فيها قول واحد يخرج عن هذا المعنى، ولا يمكن أن يوجد فيها قول يحملها على طائفة أو فئة أو شريحة اجتماعية خالية من هذا المعنى، وشريحة "لمعلمين" لا يمكن أن يدعي عاقل أو جاهل اتصافها بهذا المعنى، فهي كسائر الطوائف الاجتماعية، يمكن أن يوجد من بين أفرادها من هذه صفته، ويمكن أن لا يوجد.
أما خطر هذا القول على الدين فواضح لأن فيه رفع الحرج الشرعي الذي جعله الشارع بين الأجانب من الرجال والنساء عمن لم يرفعه الله عنه، ويترتب على العمل بذلك الوقوع في كثير من المحرمات، وقد يكون القسط الأكبر من إثم ذلك على صاحب هذا القول، زيادة على إثم تقوله على الله سبحنه وتعالى وإباحة ما لم يبحه، وإثم قوله في القرآن برأيه، نسأل الله السلامة والعافية.
وأما خطره على المجتمع فلما فيه من إباحة الاختلاط بين رجال هذه الشريحة والنساء، ومعلوم ما يترتب على الاختلاط من المفاسد، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن فيه التجني على هذه الشريحة والحكم على رجالها بالدناءة، وذلك يوغر الصدور ويثير الأحقاد ويزرع بذور الفتنة، علاوة على ما فيه من الكذب والافتراء والتنقيص وانتهاك حرمات المسلمين، نسأل الله السلامة والعافية، والواقع شاهد بخلاف هذا كله.
3- بلغنا أن بعض الناس يتندر على شريحة "لمعلمين" ويقول فيهم: "لا خير في الحداد ولو كان عالما"، ولا يخفى أن هذا من كلام السفهاء، ومن وحي الشيطان، وكذبه باد للعيان، فكم شاهدنا في هذه الشريحة من خير الدنيا والآخرة، وصاحب هذه المقالة يخشى على إيمانه، لأن في رسل ربنا صلوات الله وسلامه عليهم من كان حدادا، وفيهم من كان نجارا، فداود عليه السلام كان يصنع الدروع من الحديد ويبيعها ويأكل من ثمنها، قال تعالى: {وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير}.
ونوح عليه السلام كان نجارا، وكذلك زكرياء عليه السلام وسليمان عليه السلام كان يصنع المكاتل من الخوص فيأكل من ذلك، وإدريس عليه السلام كان خياطا.
فالاحتراف من شيم الأشراف، والأكل من كسب اليد من سير المتقين، ففي الحديث الصحيح: (ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده) أخرجه البخاري.
وذكر ابن قتيبة في كتاب المعارف عددا من كبار الصحابة كانت لهم حرف، وسماها "صناعات الأشراف"، وقال: كان أبو بكر بزازا، وعثمان بزازا، وطلحة بزازا، وعبد الرحمن بن عوف بزازا، وسعد بن أبي وقاص نبَّالا يبري النبل، والزبير بن العوام جزارا، وعمرو بن العاص جزارا، والعاص بن هشام حدادا، وعثمان بن طلحة خياطا، وعتبة بن وقاص نجارا.
فما تولته شريحة "لمعلمين" فهو من صناعات الأشراف من الأنبياء والصحابة، وهو من أفضل أنواع الكسب، وهو من فروض الكفاية، فهو قربة من القربات، يقول ابن الحاج في المدخل: اعلم وفقنا الله تعالى وإياك أن جميع الصنائع فرض على الكفاية في الغالب، لكن بعضها آكد من بعض، لا فرق بين صلاته وتصرفه في كل ما هو فيه، إذ أن كل ذلك قد يرجع إلى الله تعالى خالصا، فبقي في جميع أحواله متقلبا في العبادات، وهذا أفضلها بعد الإيمان بالله وأداء المفروضات، لأن هذا نفع متعد، وذلك أرجح في الوزن وأعظم عند الرب.
وقال ابن خلدون في المقدمة: إن المعاش إمارة وتجارة وفلاحة وصناعة، وإن الفلاحة هي أقدمها، ولهذا تنسب إلى آدم أبي البشر وأنه معلمها، فهي أقدم وجوه المعاش وأنسبها إلى الطبيعة، وأما الصنائع فهي ثانيتها ومتأخرة عنها لأنها مركبة وعلمية، تصرف فيها الأفكار والأنظار، وتنسب إلى نوح الأب الثاني للخليقة، فهو مستنبطها لمن بعده من البشر بوحي من الله اهـ.
فبان من هذا أن الحرفة التي هي الجامعة والمميزة لشريحة (لمعلمين) ينبغي أن تكون عامل تقدير وتشريف، وأن الطعن بها أو فيها لا يليق، ولا يصدر إلا من جاهل.
ومن ادعى أن علماء هذا البلد كانوا يطعنون في إمامة "لمعلمين" أو شهادتهم فليأتنا بدليل من كتاب لأحد علماء هذا البلد، أو مقولة تنسب لعالم معين يوثق بعلمه نسبة صحيحة، وليدعنا من أحاديث العامة والسفلة ومقولاتهم البذيئة والسخيفة، فإن ذلك في كل مجتمع، ويقال في كل شريحة من شرائح هذا المجتمع، وفي كل قبيلة من قبائله، لكن لا يقوله إلا السفهاء ومن لا عبرة بقوله.
وإذا أخرجوه في قالب نظم أو مقولة تشبه مقولات العلماء فإن ذلك لا يعطيه أي مصداقية، ولا يلصقه بالعلماء، لأن بطلانه واضح، وكذبه فاضح، والعلماء ورثة الرسل وأمناء الشريعة، ولا يقولون مثل ذلك، ولا يجوز أن ينسب إليهم ما لم يقولوا، ومن تقول عليهم فالله حسيبه، والحق أحق أن يتبع.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
كتبه عبيد ربه الراجي غفران ذنبه وستر عيبه:
محمد المختار بن امباله
بتاريخ: 12/02/2015