باتت إشكالية الجهاد إحدى علامات الربط الجائر بين الإسلام والعنف، لدى بقية شعوب الأرض؛ برغم أن الغالبية الساحقة من أتباع الإسلام أبرياء من اجتراح العنف، لكن شرذمة من الحركات المتطرفة اختطفت الدين وشوهت صورته، حرّفت مفاهيمه وأخطرها الجهاد؛ كفرت المجتمعات وشنت الحروب وارتكبت أبشع الآثام. أما الآخر فلم يكن- فى أحيان كثيرة- مسالما؛ تعرض العرب والمسلمون لحملات كراهية وعدوان عسكرى وحصار اقتصادى وإخضاع سياسى، وألصقت تهمة الإرهاب بالإسلام، فى سابقة بالتاريخ، أن يُتهم دين بـالإرهاب!.
أصبح مفهوم (الجهاد فى الإسلام) مصطلحا «سياثقافيا»، يخضع لتفسيرات أقرب للتلفيقات الأيديولوجية؛ جرى خلط مروع بين العنف والجهاد؛ نتيجة الفهم المشوش لفرضية الجهاد، لذا تحاول ثلة من العلماء والمفكرين ضبط المفاهيم؛ لقطع الطريق على مروجى التكفير والعنف والإرهاب، ومن أبرز من تصدوا للمهمة العلّامة الشيخ عبدالله بن بيه رئيس مجلس الإمارات للإفتاء، رئيس منتدى أبوظبى للسلم.
إن تأويلات النصوص الدينية والأصول الفكرية هى بنى لغوية وأصولية وكلامية، لا تتم فى الفراغ، بل تتأثر بالفضاء السياسي- الثقافي؛ مما يجعل الفهم المغلوط للمفاهيم هو البنية التحتية لتجذير ثقافة العنف، بكل صورها؛ من استباحة الدماء المعصومة إلى استحلال الأموال والديار بغير حق؛ مثلما نشرت (الجماعات الجهادية) الذبح والرعب- شعار داعش جئناكم بالذبح- وألحقت أكبر الضرر بصورة الإسلام: الدين والأمة والحضارة والتاريخ، تهتم هذه الجماعات بالإمساك بقوة الدولة، لا تنوير المجتمع، ويضيقون بالتعايش مع الآخر، إنهم يفسرون النصوص الدينية بطريقة معوجة، أو ينزلونها على وقائع لا تنطبق عليها؛ نزعة قتالية تقوم على إعادة تأويل الإسلام فى سياق سياسى مستجد، تمزج مفهومى العدو القريب والبعيد،وتلوى أعناق النصوص ليصبح الجهاد إلزاميا على جميع المسلمين، ما يؤجج العنف المسلح تحت ستار الجهاد، ضد المسلم وغير المسلم.
لهذا يفكك العلّامة بن بيه مغاليق الجهاد، مبينا أن تحريف مفهومه من أشنع الأخطاء فى فهم الشريعة؛ وشدد على أن الجهاد فى سبيل الله, ليس مرادفا للقتال، فليس كل جهاد قتالا، وليس كل قتال جهادا؛ فالجهاد فى أصله وسيلة للسلم؛ لأنه اسم جامع لكل القربات إلى الله: بر الوالدين، إعمار المساجد، عمارة الأرض، مساعدة الضعفاء، الدفاع عن الوطن، وهكذا. هذا هو(الجهاد الأكبر) فى الإسلام، إنه شجرة جذعها الحوار والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة؛ لتوصيل حقيقة العقيدة إلى العقول.الإسلام، دعوة ونداء، تحددا- موضوعيا وتاريخيا- من خلال خطاب إلهى يتوجه إلى عقول قادرة وإرادات حرة، والدعاء والنداء لا يفرضان على الناس فرضا، ولا يكره عليهما أحد؛ «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر».
يوضح بن بيه أن(الجهاد القتالي) لم يُشرع إلا للدفاع عن النفس والدين والوطن، وليس لإكراه الناس على الإيمان.وإعلان الجهاد القتالي- كأداة دفاعية- ومباشرته محصور بيد الحكام وولاة الأمر؛ وإلا كانت النتيجة سقوط المجتمع فى الفوضى والدمار؛ فالقتال ليس سبيلا للدعوة، وهو لم ولن يكون إحدى أدوات تحصيل اليقين والتصديق القلبى (الإيمان). القتال فعل سياسى لا ديني؛ حتى (فتح مكة) كان حرب تحرير سياسية؛ فلم يفرض المسلمون الإيمان بدينهم على أهل مكة، عبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك الموقف السامى، عندما قال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء. والثابت فى الإسلام أن العلّة المبيحة لقتل الغير هى العدوان وليس الكفر؛ فلا عدوان إلا على المعتدين الظالمين. فلم يكن القتال غاية للإسلام ولا المسلمين، (فى المدينة المنورة)، إنما كان سبيلا لكسر الطوق الظالم عن المستضعفين الذين يئنون تحت ظلم المشركين؛ فلا حروب دينية فى الإسلام، ومن ثمّ تعد آية (لا إكراه فى الدين) إحدى قواعد الدين وركنا من أركان سياسته.
يقاوم العلّامة بن بيه (التجهيل التضليلي) فيما يخص مفهوم الجهاد؛ منبها إلى أن الإسلام حرّم قتل النفس الإنسانية البريئة، أيا كانت ديانتها، يقول الله سبحانه وتعالى: (من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) وعندما يصنف الإسلام هذا (القتل) بأنه جريمة ضد الإنسانية جمعاء، فإنه لا يحصر النفس الإنسانية بالمسلمين أو المؤمنين برسالات سماوية، بل إنه يشمل الناس جميعا. وعندما يقول الإسلام بالكرامة الإنسانية، فإنه يعنى أن الكرامة هى للذات الإنسانية؛ بصرف النظر عن الدين والمعتقد واللون والجنس والعنصر، سواء كان الإنسان مؤمنا أو غير مؤمن، وذاك ما يجب على المسلم مراعاته والالتزام به كل الالتزام؛ تأسيسا على أن أبسط تعريف للمسلم، على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه «من سلم الناس من لسانه ويده»، أى من أى من سلوكياته الضارة، قولا أو فعلا.بل إن الرسول نفسه عليه الصلاة والسلام تتحدد مهمته- بمنطوق القرآن- بأنه مذكّر بدين الله، وليس بمسيّطر على القلوب.
إن (تصويب المفاهيم) حجر الزاوية فى فكر الإمام عبدالله بن بيه؛ لتنجلى حقيقة الإسلام دين الرحمة والعدل والموعظة الحسنة، لا الإكراه والقتال والقتل، فالقهر لا ينتج إيمانا، بل نفاقا، وهو ما يرفضه الإسلام؛ فما أحوج المسلمون والعالم لرؤى العلامة المجدد بن بيه.
د. محمد حسين أبوالحسن