تصاحب السفر عموما مشقة _وإن تطورت وسائله _ وقد تنبهت الشريعة لذلك فجعلته من أسباب التخفيف فأباحت فيه القصر في الصلاة ، والجمع، والتيمم، والمسح على الخفين ...
إلى غير ذلك من تخفيفاته المعروفه .ويمتاز السفر إلى الحج بكونه سفرا خاصاًّ لأداء ركن من أركان الإسلام الخمسة ، اشترطت فيه الشريعة القدرة المادية والبدنية ، ولم توجبه إلّا مرّة واحدة في العمر، ولعلّ في ذلك إيماءً إلى ما فيه من المشقة التي كان من لطف الله بعباده أن لم يلزمهم بتكرارها .فالحاج الآن، يقطع المسافات الشاسعة عبر الفضاء ، أو في البرِّ أوالبحر،ليصل إلى مكة المكرّمة، المدينة الوحيدة المذكورة في القرآن الكريم بالاسم الصريح ، لتبدأ رحلته الحقيقيّة في أعمال الحج التي تتطلب قدرة بدنيّة ، فيبدأ الحاج بالطواف بالبيت سبعة أشواط يطالب بالعدو في الثلاثة الأول منها ، ثم يتوجه إليه الأمر بوصل السعي سبعة أشواط بين الصفا والمروة بهذا الطواف (إن كان متمتعا ) ويؤمر بالنفرة إلى منى يوم التروية: الثامن من ذي الحجة ، ومنها إلى صعيد عرفة ،يوم التاسع ثم القفول منها بعد الغروب إلى مزدلفة ،والمبيت بها ثم النزول الى منى بكرة يوم العيد لرمي جمرة العقبة يوم النحر ،فا الكعبة المشرفة للقيام بطواف بطواف الإفاضة آخر أركان الحج ، ثم الرجوع إلى منى و المبيت بها ليالي التشريق للقيام برمي الجمار الثلاثة الصغرى ، والوسطى، والعقبة ، في أيام التشريق الثلاثة بعد زوال كل يوم لغير المتعجّل، ثم طواف الوداع لمن يريد الانصراف من مكة ، كل هذه المناسك الان من عرفة إلى مزدلفة، ثم الجمرات ، ثم البيت ثم.الرجوع.إلى منى ، يؤديها الحاج على قدميه ، رغم تطور النقل وحداثة وسائله في المملكة ، لكن زحمة المشاعر بالحجيج ، و المحافظة على سلامتهم فرضت على السلطات منع استخدام وسائل النقل في أغلب هذه المناسك . إلّا أنّ هذه المشقة البدنية الظاهرة تضمحل عند الحاجِّ الذي يستشعر عظمة المشاعر ، ويستحضر معاني الأعمال التي يقوم بها أثناء حجّه ،
فما إن يشاهد البيت العتيق ويستحضر عظمته، وأنه هو أول بيت وضع للناس ، وتولت بناؤه الملائكة ، ثم الأنبياء ، وجعل التوجه اليه شرطا في قبول الصلاة التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام ، وأن الصلاة الواحدة فيه بمائة الف صلاة فيما سواه....
إلاّ هانت عليه مشقّة الطواف ، وإذا تلى قوله تعالى : (إنّ الصفا والمروة من شعائر الله) و استحضر أنّه يحاكي في سعيه فعل السيدة هاجر وهي تلتمس طريقا تنقذ بها ابنها نبيٌّ الله إسماعيل من الظمإ ، فلن يشعر بإرهاق تلك الأشواط السبع التى تبدأ بالصفا وتنتهي بالمروة.
وإذا استحضر عظمة الوقوف بعرفة وتجلى الله تعالى للقائمين بها يوم عرفة ، و غفرانه لهم فسيستهين القيام بتلك الرمضاء و تسلق تلك الصخور الصم في ذلك اليوم ، وإذا اتجه الى مزدلفة وتذكّر النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينادي في الناس السكينة السكينة ، وأناخ بالمزدلفة وصلى العشاءين ، ثم تحرّك للمشعر الحرام وصلى بمسجده الفخم الأنيق وتلى قوله: فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هديكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ، وتدبّر هذه الآيات وكأنها تخاطب هذه الجموع الغفيرة التي جاءت من أصقاع الدنيا ومناكب الأرص تلتمس الرحمة والمغفرة ، فلاشك أنه ستتولّد لديه طاقة عجيبة ، ونشاط.ٌٌ
يساعده على قطع المسافة بين المشعر الحرام ومنى لرمي جمرة العقبة ، ليتحلل بها التحلل الأصغر فيحلق ، ويتوجه إلى الكعبة لأداء آخر أركان الحج: طواف الإفاضة الذي هو أهم أعمال الحاج يوم الحج الأكبر بعد الرمي والحلق و نحر الهدي .ثم إنّ الحاج اذا استشعر فضل أيام التشريق والحكمة من رمي الجمار الثلاث ، وعلم أنَّ في فعلها تأسيا بإبراهيم عليه السلام وهو يرمي الشيطان ، حين أراد ثنيه عن الاستجابة لأمر ربّه ، والانقياد لذبح ابنه ، وهو إبراهيم الذي يخاطبنا المولى في حقّه بقوله ( قد كانت لكم إسوة حسنة في إبراهيم والذين معه) إذا استحضر الحاج هذه المعاني هانت عليه تلك المسافات الكبيرة التي يقطع على رجليه ، والزحام الشديد الذي يلاقيه،
ثمّ إنّ الحاج المتأمل لهذه الجموع الغفيرة التي لن يرى مثلها في غير هذا المشهد المهيب ، قادمة ملبية دعوة النبي الكريم إبراهيم عليه السلام ( وأذن في الناس بالحج ياتوك رجالا وعلى كل ضامر ياتين من كل فجٍّ عميقٍ ) يختلفون في اللغات، وفي الألوان والهيئات ، ويتحدون في لبس البياض ، وأداء المناسك والتوجه إلى رب السموات ، ليشعره هذا الاجتماع بالقيام لله على أرض الساهرة يوم العرض على الله لا تخفى منهم خافية ، وفي التكيف مع الاحرام ، والالتزام بلبسه أيام الحجِّ من تربية النفس ومخالفة هواها ، ما يدعو إلى الفلاح ، يستوى في ذلك علية الناس وسوقتهم ، قويهم وضعيفهم ، وفي ذلك من العدل الإلاهي ، ما يبعث المتأمل فيه إلى التواضع لله عند لبس المخيط، وعدم الترفع والتكبّر على عباده .
إنَّ استحضار هذه المعاني العظيمة ، والحكم البليغة يجعل الحاج يعيش اثناء رحلة الحج في بحبوحة من النعيم الّروحانيِّ ، تستحقٌّ أن تستسهل في سبيلها كل الصعوبات ، وتقتحم لتحصيلها العقبات ، ومما يزيده سرورا وحبورا وعد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الحج المبرور بحطّ الأوزار، وسكنى جنات الخلد في دار القرار.
نسأل الله أن لا يحرمنا وسائر المسلمين من دار كرامته وأن يحلّ علينا رضاه.
إسحاق الشيخ سيدي محمد
مكة المكرمة ليلة 14 ذي الحجة 1444 ه الموافق :01_07_2023م