زرت نيويورك عدة مرات. ولكني في كل مرة أزورها، تبهرني هذه المدينة العجيبة، ليس فقط بأضوائها الفاقعة وعماراتها الشاهقة، وميادينها الصاخبة، بل تبهرني بتناقضاتها الصارخة.. وبقدرتها الفائقة على تدبير تلك المتناقضات وتعظيم الإستفادة منها باستمرار..
في نيويورك، لا أحد يشعر بأي غربة.. ففيها يجد كل أحد نفسه وسط مجسم مصغر للعالم أجمع، يحمل الكثير من التنوع والتمايز والإختلاف، ولكنه يعيش في انسجام خلاق.
هنا مثلا، ورغم هيمنة رطانة الإنجليزية على لغة التواصل والخطاب، إلا أن الناس يتحدثون أكثر من 800 لغة أخرى.. وهو ما يجعل من نيويورك المدينة الأكثر تنوعًا لغويًا في العالم. ونفس هذا التعدد نجده في مجال الأطعمة والوجبات. ففي نيويورك، يتجاوز عدد المقاهي و المطاعم ال 20000، لدرجة أن الشخص يمكنه أن يزور مطعماً كل يوم ولمدة 54 سنة بدون أن يكرر زيارة نفس المطعم.
نيويورك مدينة في غاية الحداثة والعصرنة، وهي كلما ذكرت، يستحضر الجميع أحداث الحادي عشر سبتمبر 2001، ومأساة آلاف الناس الذين حصدت أرواحهم تفجيرات برجي مركز التجارة العالمي. لكن نيويورك مدينة قديمة أيضا وتاريخها يشكل سجلا مثيراوحافلا بالتقلبات.
في عام 1624، أنشأ المستوطنون الهولنديون مرفئا صغيرا على نهر "هيودسن" وقام "بيتر مينويت"، بتكليف من شركة الهند الغربية الهولندية، بشراء جزيرة "مانهاتن" -التي هي اليوم القلب النابض لنيويورك- من أحد زعماء الهنود الحمر، مقابل 60 فلورين هولندي وهو مبلغ زهيد يقدر خاليا بأقل من ألف دولار، ليحولها إلى مركز لتجارة الفراء.
أطلق الهولنديون على البلدة تسمية "نيو أمستردام"، تيامنا بعاصمتهم.. لكن الإنجليز انتزعوها منهم في العام 1664 وغيروا تسميتها لتصبح نيويورك، بعد قيام "تشارلز الثاني" ملك إنجلترا، بمنح الأراضي لأخيه، دوق يورك.
وفي مسار تقلباتها ونجاحاتها الكبيرة، أصبحت نيويورك عاصمة للولايات المتحدة الأمريكية لمدة خمس سنوات بين عامي 1785 و 1790.
فيما بعد، انتقلت العاصمة الأمريكية من نيويورك إلى فيلادلفيا، قبل أن تستقر في واشنطن دي. سي. وبقيت نيويورك عاصمة اقتصادية للولايات المتحدة بسبب كثرة الشركات والبنوك العالمية فيها، ولاحتضانها لسوق الأوراق المالية أو بورصة نيويورك المعروفة ب وول ستريت، وبورصة نازداك ومؤشر الداو جونز الصناعي. وهي اليوم المدينة الأمريكية الأكبر والأكثر سكاناً والأسرع حركة ونشاطا.. وهي الأكثر نجاحا في مجالات التجارة والمال، والإعلام والفن والأزياء، والعلوم والتكنولوجيا والتعليم والترفيه والسياحة.
وفضلا عن كل ذلك، أصبحت نيويورك عاصمة للعالم وهي تمثل أكبر منتدى للدبلوماسية المتعددة الأطراف منذ أن أصبحت تؤوي مقر الأمم المتحدة الذي انتقل إليها من جنيف وتم تدشينه عام 1951 بعد أن حلت المنظمة الأممية محل هيئة عصبة الأمم مع انتهاء الحرب العالمية الثانية..
لكن ما يبهرني أكثر في نيويورك هو قدرتها على تسيير كل هذه النجاحات معا وجنبا إلى جنب، وأن تكللها بالنجاح الأصعب برسم العاصمة الثقافية ليس فقط للولايات المتحدة، بل للعالم أجمع.
أجل، الثقافة هنا تسير جنبا إلى جنب مع السياحة و الإقتصاد والتجارة والمال والإعلام.. من يأتي إلى نيويورك لا بد أن تزور شارع برودواي، ومسارحه ومعارضه ومتاحفه ومراسمه ولوحاته.. ومذا زيارة أحياء الكتاب والمثقفين والمقاهي التي يترددون عليها في منطقة "وست سايد".
هذه المرة أشعر بنكهة خاصة لزيارة نيويورك، ضمن وفد فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، الذي سيشارك في افتتاح أشغال الدورة ال 78 للجمعية العامة للأمم المتحدة.. وسيخطب أمامها مبلغا صوت موريتانيا إلى زعماء العالم الملتئمين في هذا المنتظم الأممي الأعظم، معبرا عن مواقفها ومتحدثا عن آمالها وتطلعات شعبها نحو مستقبل مشرق ومزدهر..
وتظل نيويورك، وهي المدينة التي لا تهدأ فيها الحركة والنشاط، تسابق نفسها وتتحدى ذاتها في ديناميكية سوسيو اقتصادية وثقافية محمومة.. ولعل سر ثراء المدينة التي لا تنام، يكمن في تنوعها المجتمعي والثقافي.. إنها المدينة التاريخية للمهاجرين الذين جاءوا من مختلف أصقاع أوروبا وأسسوا الحلم الأمريكي.. وما فتئت نيويورك تستثمر في تنوعها الذي تمنحها عائداته اليوم المزيد من الرخاء والازدهار..
لكن، في زحمة العمل اليومي، هل سأجد وقتا لأسير ولو لساعات على خطا "حامدون" بطل روايتي "لغز انجيل برنابا"، لأزور مكتبة نيويورك العانة، تلك المعلمة الأيقونة التي كانت في الأصل خزانا للمياه، فقررت نخبة نيويورك يوما ما، تحويلها إلى خزان للمعرفة والثقافة؟ هل سأتمكن من التجوال في شارع "برودواي" والوقوف على ورش الفنانين والرسامين والنحاتين وهم يمارسون إبداعاتهم بشغف وبدون كلل؟
ومن أضواء "برودواي" الساطعة إلى القاعات المتصاعدة في متحف "غوغنهايم"، تعد المتاحف والمعارض والمسارح والمواقع التاريخية في نيويورك هي الأفضل في العالم. وهي توفر فرصًا لا حصر لها لتجربة الفن والثقافة في كل ركن من أركان المدينة. وهكذا يمكن لكل من يزورها أن يخرج الفنان الذي بداخله في متحف "فينيمور" للفنون أو مركز "روتشستر" للفن المعاصر، الذي يجذب أصحاب الرؤى من جميع أنحاء العالم.وإن شاء الزائر أن يضحك في مركز الكوميديا الوطني ومع أسطورة الكوميديا "لوسيل بول" في مركز "لوسي ديسي" للكوميديا، الذي يضم معارض ومهرجانات تجتذب أشخاصًا مرحين من الدرجة الأولى. ولو شاء الزائر أن يتخذ لنفسه سبيلا نحو الأنشطة الإبداعية، فسيجدها في متحف "المتروبوليتان" للفنون، ومتحف الفن الحديث، ومتحف "كورنينج للزجاج"، أو المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي..
وسواء كان الزائر من محبي شكسبير، أو الأوبرا، أو الباليه، أو موسيقى الجاز، أو كان يرغب في رؤية أكبر الأسماء في الموسيقى في جولة واحدة، فسيجد كل ذلك في فضاءات الأداء الشهيرة في نيويورك من مركز "لينكولن" وقاعة "كارنيجي" إلى "شيا" في "بوفالو"، ومركز "ساراتوجا" للفنون المسرحية.
حقا مدينة نيويورك مذهلة.. ولا شك بأن تجديد العهد بها يحتاج لبعض الوقت الذي قد لا نجده هذه المرة بحكم المشاغل.. لكننا في هذه الليلة الماطرة، نحتاج أن نعقد صفقة مع المدينة التي لا تنام، لكي تتركنا ننام.. في انتظار يوم جديد..
بقلم // مدير المكتب الإعلامي لرئاسة الجمهورية الدبلوماسي محمد السالك إبراهيم أحمد بانم