ما عاد بمقدورى أن أواصل الصياح لإيقاظ الناس، وإبلاغهم بحلول الفجر، وربطهم بشروق الشمس . لست خائفا طبعا ، فما من "باز" يصرصر هذه الأيام، لكن قناعة تولدت لدي بأنه علي أن أعتزل أو أستقيل، وأتفرغ لشيء آخر غير حمل البشارة بالصباحات الكاذبة ..!! منذ سنوات لاحظت أنه لا فجر صادق في حياة الناس، ولا حتى في حياة الدجاج، وأنه لا فرق ـ باستثناء بعض الشكليات السخيفة ـ بين حياة البشر وحياة الدجاج..!!
أنا عاجز عن استبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر..!!
هل أصبح الفجر مزورا وخيوطه مزيفة وأضواؤه وهمية ..؟!! سمعت عند البشر أن أشياء كثيرة في حياتهم مزورة، من أنظمة الحكم، إلى الأدوية، مرورا بالمشروبات والأغذية المعلبة ..!!
نعم، أحيانا أتخيل أنه لا فجر يلوح في الأفق، ومرات عديدة شعرت بتأنيب الضمير لأنني صحت بالناس أن حي على الفجر والشمس والعمل، مع أنه ليس في حياتهم هذه الأيام فجر ولا شمس ولا عمل، فقد كنت أصيح في الوقت الضائع بالنسبة لهم ، وأيضا بالنسبة لي كديك من المفروض أن أحترم عقول الناس وأبصارهم، فأنا لست ممثلا في مسلسل تاريخي مصري، ولست وزيرا قفزت به المحاصصات المجنونة إلى وزارته دون كفاءة أو خبرة أو تجربة، أنا لست مديرا للإذاعة أو التلفزة الرسمية، وليس مقبولا منى أن أزور صياحى، وأتصنع طلوع فجر وهمي..!!
ربما تغيرت أنا، أو الناس من حولي، أو الحياة كلها، أو تغير الزمن، أو أصبح هناك جدول مناوبة بين الليل والنهار، لست متأكدا من كل ذلك ،لكنني واثق أنني لم أعد ذلك الديك قوي البنية، مفتول العضلات،واثق الخطا، أنيق العرف والمنقار، زير دجاجات، كثير الأبناء، بل أصبحت ديكا هرما غير قادر على الصياح، بل حتى على تمييز الوقت واستثماره. ارتكبت حماقات كبيرة جدا عبر سنواتى الأخيرة، من آخر حماقاتى أنني صحت قبل يومين والشمس في رابعة النهار، و كأنني أصيح في عاصمة فارق التوقيت بينها مع عاصمتنا 7 ساعات على الأقل..!! كان موقفا محرجا، فقد مر بى بعض سكان الحي وهم يتغامزون : ـ هذا الديك أصبح خرفا لم يعد يميز بين الليل والنهار ـ اعذروه ربما يصيح معلنا عن الفجر بتوقيت "مكة المكرمة" ـ أنهم ديكة آخر الزمن بطالة وصبيحة ومجون وقذارة ـ ربما ضبط ساعته على توقيت كوالالامبور أو هانولولو ـ يبدو أنه أصبح جاهزا للذبح فما قيمة ديك يعلن عن الصباح والشمس راد الضحى ـ إنه أصبح سياسيا فاختياره للتوقيت مناورة سياسية تستبق الحوار القادم بين الحكومة والمعارضة ـ يذكرنى ب"حوار" المعارضة والنظام المرتقب صراخ كثير وعمل قليل وارتباك فى التوقيت والآليات في الواقع حزت تلك التعليقات في نفسي كثيرا، وأحسست بأنهم ضربوني في كبريائي، ولكن وجدت عزائي في أن البشر لا يقيمون وزنا لبعضهم البعض، ومن الحماقة أن يبحث ديك هرم مثلى عن وزن لديهم . ذات مرة أبصرت ضوء قادما من بعيد، فلم أتردد في الصياح موقنا أنه ضوء الفجر، لكن صوتا كبيرا صم أذني فجأة، لأكتشف أن الأمر يتعلق بضوء شاحنة ضخمة قادمة من بعيد، وعدت إلى "الكاج" مهموما مكسور الوجدان، فقد أخبرتني زوجتي أطال الله بقاءها ( لا أعرف رقمها بينهن) أن الليل لم ينتصف بعد، وأنني أيقظت سكان "الكاج" جميعا، حتى "الصيصان" الصغيرة استيقظت لأننا نربى أبناءنا في مجتمع الدجاج على أن صياح "بابا" لا ينام بعده إلا منافق معلوم النفاق، وأنه إذا صرصر "الكهل" فلا كتكوت نائم ..!! حقيقة تولدت لدي عقدة ذنب مفاجئة، فلم أعد أجد فجرا صادقا أصيح معلنا عنه، فكل الصباحات تحمل فجرا كاذبا ،ولذلك ألعب دورا غبيا في الترويج كل يوم لفجر كاذب، غير عابئ بوقت ولا ظرف ولا تبعات لما أقوم به من صياح في التوقيت الخاطئ ..!! نصحتني إحدى زوجاتي (لا أتذكر رقمها في اللائحة) بأن أذهب إلى طبيب بيطري أو بشري (نحن في بلد لا فرق فيه بين أدوية البشر وأدوية البقر إذ لا رقابة ولا نظام إن هي إلا فوضى تبحث عن الربح والربح فقط ) ليعاين حالتي التي يمتزج فيها الخرف بضعف النظر والشيخوخة ب"الكوكسيديا" و"انتفاش الريش" .
ضحكت كثيرا يومها درجة الخروج عن الوقار اللازم، وأنا أمام دجاجة أنثى حكيمة وجميلة، تعلمت منها الكثير، ووقفت معي في السراء والضراء، وأنجبت منها الكثير من الأبناء تفرقوا أيدي سبأ . ضحكت لأن البشر من حولي يلعنون قطاع صحتهم، ويقولون إنه منهار، وإن حكومتهم لا تفعل شيئا من أجلهم ( قال لي ديك كان من أخلص أصدقائي رحمه الله إن كوارث البشر سببها الحكومات والصحافة فقد كانوا أفضل حالا قبل أن تفرض عليهم الحكومات أو تفرض نفسها عليهم ويسموا غسيلهم وشائعاتهم تسمية الصحافة وكان يقول إن أفضل نعمة من نعم الله على الدجاج أنه بلا حكومة وبلا صحافة) وإذا كان البشر بلا رعاية صحية فما بالك بديك بائس هرم فقير منسي ..؟!! ضميري لم يعد يسمح لي بمغالطة الناس وإيقاظهم في التوقيت الخاطئ، ولا أخفيكم سرا أن هؤلاء البشر لا يستيقظون أبدا، تستيقظ أبصارهم لكن بصائرهم لا تستيقظ، ولذلك لا يتغيرون أبدا، لا يغيرون ما بأنفسهم، إنهم يصرخون كثيرا، ويتصارعون بجنون، يكذبون، ويسرقون ، ويفعلون كل ما ينتهي ب "نون"..!! والحق أن "كاجاتنا" معاشر الدجاج أفضل من مدنهم وما يسمونه "وطنا"، فعلى الأقل "الكاج" منضبط منظم، وقانون الخدمة و تراتبيتها صارمة فيه ..!!
عندنا لا تجد انقلابات ولا انتخاباتـ، ولا تجاذبات من أي نوع، لا حروب ولا فتن، ولا صراعات عرقية أو فئوية . لا تسمع عن اغتصاب، ولاعن جريمة قتل. لا إضرابات، ولا احتجاج ولا قمع. كل شيء متروك للتراضي والزمن وحتمية التعايش، مهما كان ضيق "الكاج" وكثرة سكانه، وهشاشة بنائه، وشح موارده. نحن ميالون إلى السلم البيني، والتسليم بما قسمه الله لنا، لذلك نعيش حياة هنيئة كلها كفاح وصبر وتحمل وتفاهم مشترك . في مجتمعنا لا تجد ديكا يمينيا وآخر يساريا، لا تجد ديكا إسلاميا وآخر قوميا، لا تجد ديكا جهاديا وديكا معتدلا..!!
يذبحنا البشر لكننا لا نذبح بعضنا، نعمل بصمت ولا نؤمن بالقبائل والأعراق والألوان والثقافات، فالديك ديك فقط، بغض النظر عن لونه، ومسقط رأسه، ومظان رزقه، لا يوجد ديك شريف وآخر وضيع، لا توجد دجاجة متحررة ودجاجة مقصية أو مهمشة، أنا مقتنع بأننا أفضل من البشر من حولنا نظاما وطريقة حياة وتفكير..!!
أيام طفولتي كان الفجر صادقا ، بل كل شيء كان صادقا وحقيقيا، الحب ( بضم الحاء وبفتحها أيضا) الفجر، الشمس، الصباح، المشاعر الإنسانية والدجاجية، وكنت أطبق نظاما صارما في العمل، أصيح عند الفجر، ولكي أنتظره كنت أتسلق بقايا شجرة ترتفع قليلا عن الأرض، بما يتيح لي مراقبة السماء، ودرجات الظلام والنور، وساعات الليل. بعد أن أصيح مؤذنا بالفجر أنزل إلى "الكاج" لأتفقد الزوجات والأبناء، وأوزع عليهم المهام، ونتقاسم الغذاء، وعندما ينتصف النهار أذهب للرياضة، والبحث عن الرزق، والأصدقاء، وتسقط أخبار بني جلدتي في المدينة، لأعرف أسماء الذين ذبحوا، والذين دهستهم سيارات، أو آذاهم الأطفال، والذين اعتقلتهم المجموعة الحضرية، والذين قرروا الهجرة ونحو ذلك ..!!
أخصص ما بعد الظهيرة لحراسة "الكاج" ، وفى سبيل تأمين حياة سكانه ربطت علاقات طيبة مع البشر والماعز والحمير، بل حتى مع القطط التي اقتنعت أخيرا ـ وبعد انهيار جدار برلين ونهاية الحرب الباردة ـ بأن التعايش مكسب ينبغي الحفاظ عليه، وأن حزازات الماضي يجب أن لا تشغلنا عن التفكير في بناء مستقبل مشترك من التسامح والتعايش والألفة .!! كان ذلك أيام الطفولة والمراهقة والشباب والكفاح، ذات زمن جميل بريء طاهر وعفوي.
اليوم تغولت القطط، وما عادت الحمير مستعدة لاحترام "كيجاننا"، حتى الماعز ـ مع مسالمتها وعلاقتها الفطرية بمجتمعنا الدجاجي ـ أصبحت تواجهنا بالكثير من التنكر والازدراء، أما البشر فحدث ولا حرج، يذبحوننا بدون رحمة كما يذبحون بعضهم ( كم تؤلمنى رؤية أبناء جلدتى وهم يتلوون موتا وحرقا فى أفران الشواء الكهربائية الشفافة أمام المطاعم البلدية وأعين المارة دون أن تستوقف أحدا) ، وما أرى إلا أن "داعش" وما تقوم به من ذبح لبنى جلدتها من البشر، مجرد نوع من العقاب الإلهي ، فإذا كنتم ـ أيها البشر ـ تذبحون الدجاج غير عابئين بآلامه ومعاناته، فذوقوا نفس الآلام والمعاناة من بني جلدتكم لتكتشفوا كم ظلمتم الدجاج، وفرقتم بين الأب وأبنائه، والزوجة وزوجها، في مجتمع مسالم لم يحمل في حياته سكينا ولا ضغينة ولا حقدا عليكم . اليوم تحاصرنى أزمات لانهاية لها..
لم أعد حارسا قويا ل"الكاج"، ولم اعد مبشرا أمينا بعودة الشمس ،وولادة الفجر، ولم أعد قادرا على إقناع الآخرين من حولي بضرورة التعايش . لقد أصبحت عاجزا عن القيام بأي شيء تماما كما قال أحد شعراء البشر وأظنه نزار قبانى: " أنا عاجز عن عشق أية نملة أو غيمة عن عشق أي حصاة " لم يعد بمقدورى أن أتزوج أو أن أنجب، أو أن أصيح، أوان أبحث عن الحب (بضم الحاء وبفتحها أيضا) ..!!
وأي قيمة لديك فقد القدرة على كل تلك الأشياء ..؟!! وما الفرق بينه وبين سياسي من البشر قضى حياته يكذب ويخون ويسرق حتى فقد القدرة على الكذب والخيانة والسرقة ..؟!!
إننى وتحملا للمسؤولية التاريخية، أعلن استقالتي نهائيا من منصبي كديك ينتمي لأمة الدجاج العظيمة .. أظن بأنني لا استطيع المضي قدما في خداع زوجاتي وأبنائي بأنني أستطيع حمايتهم، ولا في خداع البشر بإيقاظهم على الصباحات الكاذبة، ولا في خداع الحيوانات من حولي بأنه بمقدورنا أن نتعايش باحترام ومسؤولية، ولا في خداع بقايا الشجرة بأنني أستطيع تسلقها لاستبيان خيوط الفجر..!! إنني أملك الشجاعة الكاملة على اتخاذ هذا القرار المصيري والمفصلي في حياتي وحياة بني جلدتي، وهي نفسها الشجاعة التي سأتحلى بها دائما لتنفيذه وتبريره، والعض عليه بالمنقار..!!
حبيب الله ولد أحمد