انطلقنا من مقطع لحجار في حدود الثامنة ، و الطريق التي طال انتظارها مغبرة مكفهرة ، مقعرة مسننة ، و الحركة فيها بطيئة ارتجاجية، و تتطلب الكثير من التركيز و الانتباه .
على جنبات الطريق تنتشر قرى كثيرة، لا مقومات اقتصادية لها ، و إنما هي عناوين اجتماعية تستثمر في السياسية و تستنزف مقدرات الدولة بمشاريع تنموية تشتت المجهود و تضاعف الطلب . تطالب بالمدرسة و المركز الصحي و الماء و الكهرباء و الاتصال و الانترنت ، من أجل أفراد يكسبون أقواتهم من المدن و يتركون أسرهم في الأرياف ، فلو أن هذه القرى اجامعت في مدينة مقطع لحجار لكان ذاك أفضل للتنمية ..
على الطريق و غير بعيد من مدينة مقطع لحجار يتربع كيمي بوقار يحكي تاريخا مديدا من المجد ، فهنا يحلو السرد عن التاريخ ، فعلى هذا الجزء من المقاطعة تعايش الزناد و القلم ، و الجياد و ذات الأظلاف ، و السرج و الإكاف . و بين أشجار الغضا و السدر و المرخ و السرح، على امتداد الأضاة التليدة ، تعانقت الذرة و الدخن و الفول و الدباء و اليقطين لعقود من الزمن .
"كيمي" رافد من التاريخ لا ينضب ، و حلقة من الحياة الاجتماعية عرفت الاستقرار و الرغد و العلم و الفروسية و العبادة و التلاوة و الشعر و الغناء و التبتل ..
قبيل "شكار" تحسنت وضعية الطريق و قلت القريات عليها ، و بدأت معالم مدينة "شكار" ترسل رسائل الاحتضان للعابر و المقيم . و تحيط بالمدينة حقول خصبة لو أنها استخدمت استخداما غير تقليدي لاكتفى جزء كبير من الولاية ذاتيا من الخضروات و البقول .
أبناء شكار دخلوا دوائر الإدارة مبكرين ، و مارسوا العمل الحكومي منذ نشأة الدولة ، لكن ذلك لم ينعكس على المدينة من حيث المباني و الاستثمارات .
في شكار أخذنا شايا معتقا أنيقا في مكان هادئ ، و انطلقنا مع الطريق الجديدة جنوبا ، و التي تعد إنجازا عظيما اخترق سهول آفطوط برشاقة ليصل الكثير من القرى و التجمعات بطريق الأمل ، و سيصل قريبا بمونكل وكيهيدي من جهة ، و باركيول و الغايرة من جهة أخرى ، فهكذا مشاريع كبيرة تسهل الحركة و تزيد من التواصل و تقرب الخدمات التنموية و الحضرية للمواطنين .و تمر الطريق ب"واد كتي" و هو ، رغم السنون و يد الإنسان التي عبثت بأشجاره، ينتصب شامخا يلقى التحية على كل عابر ، و بعيد "الواد" مررنا ب"بنار" و هو لعمري مكان يستحق الإكبار ، و كأني به قرءانا يتلى و فتاوي حاضرة و أدبا و خلقا و ورعا و ذكرا آناء الليل و أطراف النهار ...
الطريق إلى "مال" كثير القرى و التجمعات ، و الأرض منبسطة جميلة ، و تبين عن كثافة المرعى ، لكن المواشي لم تكن بذلك المستوى ، و تشيع هنا الاقتطاعات الريفية و المحميات ،و هي مسألة تؤثر على على حرية الرعي و استقرار المنمين، مما يدفعهم للهجرة إلى الضفة ، و ما لذلك لأثر ، لابتعاد مصدر أساسي للغذاء، زيادة من أسعار الألبان وواللحوم ..
مدخل "مال" و "مال" كله جميل ساحر ، و المدينة تنتصب بخيلاء فوق كثيف متسربل بالخضرة من كل جانب ، و من المدخل الجنوبي ترسل ناظريك إلى السد و الأضاة المكسوان بالخضرة في مشهد يخطف الألباب.
ففي هذا المنكب من الولاية تناغم الناس مع الأرض، و انطبعوا بجمالها و صفائها و طيبتها ، فهنا يتميز الإنسان بالذكاء الفطري و الأخلاق الرفيعة و الكرم الطافح الأسارير المنبسطة و الطيبة العفوية .
من مال كان بعض أوائل كوادر الدولة ، و كان مال و مقطع لحجار أهم رافدين لثانوية بوكي ثم ثانوية ألاك ، و من طلابها نشأت الدفعات الأولى للموظفين ، و بعض القيادات الأولى للحركات السياسية في البلد .
انطلقنا إلى "بورات" بسرعة ، فبالنسبة لي الأمر يتطلب الإسراع ، لأنها أول مرة أدخل هذه المنطقة من الولاية و هذا المجتمعات الذي أعتبر أنها القاعدة الخلفية و الأمان و مكمن الإعتداد و الإعتزاز في الولاية ، فهنا يرتبط الانسان بأرضه و يعتز بانتمائه ، و يصبر على نوائب الدهر . و يعيش الناس في قرى متكاتفة متعاونة تذوب فيها الفوارق ، و يتقاسمون الرغيف و الألم ، و يتطلعون للمستقبل بصبر و أناة ..
الطريق من "مال" إلى "بورات" يمر من قرى مشتتة و مبعثرة بعثرة السدود المنتشرة في المنطقة ، مما يصعب عمل "تآزر" و القطاعات المعنية ، فالناس بحاجة للتعليم و الصحة و الخدمات الأخرى .
التضاريس منبسطة مع بعض التموجات الرملية، و قد قهرها الطريق المعبد و سهل الانتقال فيها ، لكن المعضلة الحقيقية لعجلة التنمية هي تعدد القريات و التجمعات التي يصعب تحريكها من مكانها ، لأن كل واحد منها أنشئ على سد رملي صغير هو مصدر غذا لملاكه.
يبعد تجمع "بورات" مسافة 22 على الطريق ، و هي مسافة تخترق الكثبان و الأحراش و لا يحسن بأصحاب السيارات الصغيرة عبورها ، و يأمل سكان التجمع أن تكون قريتهم، نظرا لموقعها الاستراتيجي ملتقى للطرق بين "الصواطه" و مونكل وباركيل .
وصلنا إلى التجمع الرئيسي مع صلاة الظهر ، و تم استقبالنا في مباني المعهد ، و هو مجمع به مسجد كبير و قاعات درس و مكاتب إدارية ، و ذكر لي أحد الإخوة أن عدد طلابه في السنة الماضية بلغ 300 طالب.ويمتاز الناس هنا بأن لهم إحساسا خاص بالتميز و الصرامة و الاعتداد بالنفس ، و يتساوى في ذلك المثقفون و الرجال التقليديون ، و لا غرو في ذلك و قد اعتادوا على الاستقلالية و فرضوا لأنفسهم احتراما خاصا ، فهم فرسان أشداء، خبروا الحرب و طوعوا الزناد و اعتادوا على صهوات الجياد ، و اقتاتوا من مزارعهم و مواشيهم بعرق الجبين و أطعموا الأهل و الجيران .
هذه المنطقة وسمت بالفقر ذات يوم ، و هي سلة غذاء لما تتوفر عليه من الأراضي الخصبة و يد عاملة نشيطة و مرتبطة بأرضها، و قد بدأت منذ سنوات تدخل في اهتمامات الدولة ، فعرفت بعض المشاريع ، لكنها تحتاج بعض التنظيم و توحيد جهود التنمية و استغلال المقدرات الزراعية وجمعها في مدينة واحدة تتوفر فيها المقومات الأساسية، و تكون منطلق لممارسة النشاطات الاقتصادية للجميع ..
النشاطات التي انتقلنا للمشاركة فيها هي : المشاركة في مهرجان "تغليت" في "بورة" ، و تدشين إنارة قرية "باسنكدي" و سد "الفرع" ، و وضع الحجر الأساسي لسد "لكريع"، و الاطلاع على نشاطات أخرى ل"تآزر".
موقع المهرجان و طريقة انتظام خيمه و كراسه و منصته مبهرة جدا ، قبل أن تتدخل أيادي المتسابقين للمواقع الأمامية لتؤثر على الانتظام ، لكن خبرة المنظمين و صرامتهم سيطرت على الوضع رغم أن العرض أكبر الطلب ، فكثرة المنتخبين و قلائدهم في الولاية و الفاعلين و المفاعيل سمة في الولاية ، و يختلف الهدف من الحضور من شخص لآخر ، فمنهم المستكشف و السائح ، و المصور و الهادف للظهور ، و الباحث الاجتماعي و المؤرخ ، و المرافق و الرديف .
تسمية "تغليت" تترجم بصورة دقيقة مراحل التنمية التي تواكبها "تآزر" ، من البذر إلى الحصاد، مرورا بالمعالجة و الحماية، كما عبر ذلك بطريقة عميقة و ذكية معالي الوزير ، مندوب "تآزر" ، في تشبيه تمثيلي مضمخ بالثقافة و التراث ، مع إحاطة بالمفاهيم و الدلالات و اللغة ، و لعلها أول مرة أسمع فيها خطابا رسميا من مسؤول سام بهذه الدرجة من استحضار المهمة و جميع أبعادها ، و تقديم ذلك بأسلوب مبسط و عميق في نفس الوقت ، و هي أول مرة أكتشف فيها وزيرا ، ممن ألتقيهم، أعترف له أنه على يشغل المنصب بجدارة ، مع أنني لا أعرفه قبل هذه الزيارة .
المهرجان كان رائعا بخطاباته و فقراته الفنية و الفولوكرية، و كانت نشاطات "تآزر" و حضورها الصورة الطاغية على المهرجان ، و لعل أجمل هذه الصور شراء 20 طنا من "تغليت" بسعر مدعوم و توزيعها على ضعفاء المنطقة.
وحدهم "أصحاب القلائد" يغردون خارج السرب ، ففي حين غاص الجميع في الثقافة و الفن و الأدب و التراث ، طفا حضورهم إلى بيانات الدعم و المساندة و مطالبة الرئيس بالترشح و التقاط الصور و المزاحمة على الكراسي الأمامية .
غادرت مثلث الأمل ، الذي يرى رئيس الجهة أنه ينبغي أن يتسمى بمثلث التنمية، و كلي أمل أن تشهد ربوع وطني كلها ثورة تنمية، و طموحا للتنمية مثلما رأيت من طموح في أوجه أبناء هذه المنطقة ..
إسلمو ولد أحمد سالم