أخيرا أسفرت الإنتخابات الرئاسية في الجار السنغالي عن نجاح تاريخي لمعارضة قلب الطاولة في هذا البلد رغم كل المطبات والعراقيل و محاولات الرئيس ماكي صال المستميتة على مدار سنتين في عكس مجرى التاريخ .
لا مراء في أن فوز مرشح الخروج على الإطارLe Candidat anti systeme السيد بشيرو ديوماي فاي يعد حدثا مدويا بل هو زلزال سياسي له توابعه وارتداداته ليس في بلاده السنغال فحسب أو جوارها اللصيق وإنما في كل أنحاء إفريقيا و لا سيما غرب القارة على الخصوص و ذلك للأهمية التاريخية لهذا البلد الذي حكمت فرنسا من عاصمته دكار كامل إفريقيا الغربية الفرنسية (A.O.F) كما أنه ظل و منذ الاستقلال استثناءا "ديموقراطيا" لافتا بل نادرا .
و لا تكمن أهمية الحدث السنغالي بما قد يعنيه من ترسيخ ديموقراطي "نهائي" في هذا البلد بل فيما سيحمله حتما من وعد داخلي مبشر ممزوج بوعيد ضمني مرهوب ؛بيد أن الأهم يبقى ما قد جسده الحدث بالفعل من تمكين لفيضان الشباب الهادر ، المتشبع بالروح الانعتاقية المفارقة ذات النظرة المغايرة و الجديدة فضلا عن حمله لإيديولوجيا صاعدة هي "الإفريقانية" اليسارية السيادوية Panafricanisme de gauche souverainiste و التي تجتاح منذ مدة بعض بلدان القارة غالبا على أكتاف" قادة الكتائب" لكنها اليوم في السنغال تنجح و تصل للهدف في جلباب "مفتشي الضرائب" .
ويبقى التنويه مع ذلك ضروريا في أن الحالة الأفريقانية الواصلة للسلطة في السنغال ليست يسارية خالصة بل أنها ذات خلفية إسلامية عميقة و ربما حتى محافظة وإن اشتركت مع غيرها في المزاج العام التحرري المناهض للغرب.
قد لا يقتصر الحدث السنغالي الجديد على تحديات جوارية بينية و محصورة وإنما الراجح أن تكون له أبعاد جيبولتكية مؤثرة بقوة و واسعة النطاق .فالسنغال الجديد تحت حكم زعماء "الباستيف " ربما سيكون القرب الأيديولوجي ( la proximité idéologique )مقدما لديه على العقيدة المبدئية لمنظمة الإقتصادية لدول غرب إفريقيا (سيدياو CEDEAO ) القائمة على رفض التعايش مع الحكم العسكري لأي من دولها الأعضاء وهو ما كان الرئيس المنصرف ماكي صال أحد أكثر المتشددين بصدده .
فليس إذن ببعيد أن نرى السنغال الجديد وقد زال عنه ذلك الحاجز النفسي السابق وقد أضحى قاطرة أساسية وعضوا فاعلا بشكل مزدوج في كل من النظام الأمني الجديد لدول تحالف الساحل المدعو (ليبتاكو -كورما Liptako -Gourma ) و أيضا في المبادرة الاقتصادية لولوج تلك الدول لموانئ الأطلسي .
و البديهي أن السنغال قد تجر معها حتما في مثل هذا التوجه أو التحالف الأمني و الاقتصادي دولا أخرى جارة واقعة تحت تأثير نفوذها الطبيعي مثل غامبيا و غينيا بيساو وربما أيضا الكاب فردى(جزر الرأس الأخضر ) وحتى تستهوي غينيا كوناكري .ولا يخفى ما قد يكون لمثل ذلك التطور من تأثير حاسم في شؤون المنطقة و التوازنات الداخلية لمنظماتها الإقليمية ك "سيدياو " وحتى منظمة استثمار نهر السنغال .و قد تلعب السنغال حينئذ دور الوجه الجذاب و المتحدث المقبول لهذا التكتل ( أو التحالف) لدى الغرب المستاء من مسار الأحداث في دول الساحل الناشزة .
و عندها قد نكون بصدد تجمع غريب رأس كيانه يصانع الغرب و باقي هيكله يراهن على الروس والصينيين والأتراك والإيرانيين .
و بقدر ما ينبغي أن نشعر في موريتانيا بالارتياح التام لمسار الأحداث الإيجابي في السنغال الذي جنب هذا البلد الجار و القريب مخاطر الفوضى و الفشل وأبقى على حالته المعهودة من الإستقرار و الديموقراطية الناجحة إلا أن ذلك لا ينبغي أن يحجب أيضا عن أحد بعض أوجه القلق العميق والمشىروع من اكتمال الحلقة الساخنة للتحديات و الانشغالات التي تكاد تطوق البلد إذ لم يبق مريحا حقيقة سوى جهة الغرب حيث المحيط الأطلسي أو الوطن الأزرق كما في أدبيات الأتراك الجديدة .
وبخصوص البحر تكمن المفارقة في أن موريتانيا كانت دائما أمة قارية continentale وعلاقتها تاريخيا بالبحر يطبعها الرهبة و الازدراء كم لم يعرف عن ناسها ركوب السفن اللهم ما كان من سفن الصحراء .
و ما بين خطورة حالة الشلل المزمن في اتحاد المغرب العربي و أتون تململ إفريقيا الجديدة المتمردة (l'Afrique insoumise) توجد بلادنا في وضع ثابت و مستقر لكنه حرج ومتفاعل .ففي الشمال مثلا يسير البلد على خيط رفيع كحد السيف في موازنة قلقة بين القوى الإقليمية الشقيقة المتنافسة و في الشرق والجنوب نلاحظ انبعاثا مؤلما وإن كان مطردا لشكل جديد من إمبراطورية مالي التاريخية وفي الجنوب الغربي نشهد اليوم إستيقاظا عاصفا لأسد "التيرانغا" المتحفز .
يضاف إلى كل ذلك حالة الأزمة لدى بعض المشاريع الوطنية في الإقليم و ما قد يترتب على ذلك من خيارات بديلة و تطورات غير متوقعة .صحيح أن بلادنا تحظى بالاحترام و قيادتها بالتقدير و ينظر إليها من الخارج كواحة سلام و عامل استقرار كما أن تجربتها الديموقراطية سائرة و تبدو مبادراتها الاجتماعية ملهمة للجيران فضلا عن كون الآفاق الاقتصادية تصنف واعدة غير أن ذلك كله هو مما يسر ولا يغر في خضم عالم خطر و متقلب.
ولأننا بدأنا بالسنغال و هو بيت القصيد فلن ننهي دون التنويه بخشية تختلج في الصدور بل و تتردد على الألسن من قبيل إمكانية فتح حكام دكار الجدد في وقت ما علبة الباندورا (علبة الشرور ) حول مسائل المراجعات في مسائل الطاقة أو المياه وو.... أو استسهال بعض التدخلات غير المرغوبة وهنا يبقى الأولى عدم محاكمة النوايا أو استباق الأحداث . فمنطق الدولة ومصالحها وإكراهاتها تعلو عند لحظة الحقيقة على الخطاب الحزبي و مبالغاته الخطابية الانتخابية .
بالتأكيد لن ينقص قيادة البلد اليوم ما تحلى به سابقوها من الحكمة والرفق مع الصبر و الأناة دون أن يسقطوا ابدا في اختبار اليقظة و الحزم و الصرامة عندما تكون الحاجة لمثل لذلك مطلوبة .
السلام عليكم
محمد ولد شيخنا