مساء الإثنين الماضي الموافق فاتح إبريل 2024 ظلت الطائرات الإسرائلية من طراز F35A - غير المرئية على الرادار - تحوم في الجو انتظارا لخروج القنصل الإيراني من اجتماع لتضرب مباشرة مبنى القنصلية المجاور للسفارة بدمشق عند الساعة الخامسة بستة صواريخ فتهدمه على رؤوس بقية الموجودين .
عالميا ينعقد شبه إجماع بشأن خطورة هذا الحادث الطائش الذي يشكل من جهة استهتارا فجا بالأسس و التقاليد المرعية في حماية وحصانة المقار الدبلوماسية ومن جهة أخرى فهو يعد أيضا خروجا صارخا على قواعد لعبة حرب الظل أو الصراع غير المعلن الدائر منذ سنوات بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية ودولة إسرائيل (التوراتية الآن ).
تحت ركام المبنى تم القضاء على القيادة العليا للحرس الثوري(فيلق القدس ) في الساحة الاستراتيجية لسوريا و لبنان إذ قضى فيه كل من :
- القائد العام العميد محمد رضا زاهدي،
-ومساعده محمد هادي حاج رحيمي،
- وقائد الأركان العميد حسين أمان اللهي إضافة إلى أربعة مستشارين آخرين كما جرى الحديث أن من ضمنهم( الملحق العسكري؟) هذا فضلا عن ستة أشخاص آخرين ما بين لبنانيين وسوريين....
وعلى الخصوص يعتبر الجنرال زاهدي أحد كبار القادة في الحرس الثوري حيث كان ضمن أوائل المنتسبين له عند تأسيسه كما تولى فيه مناصب قيادية سامية :
قيادة القوة الجوية ثم القوة البرية قبل الانتقال إلى فيلق القدس و الخدمة الطويلة بالساحة اللبنانية/ السورية .و على هذا الأساس فيمكن اعتبار زاهدي ثالث أهم شخصية يتم اغتيالها من الحرس الثوري بعد قاسم سليماني قائد فيلق القدس في يناير 2020م قرب مطار بغداد والعميد رضا موسوي في دجمبر 2023م بحي السيدة زينب في دمشق .
لا تكمن خصوصية هذا الهجوم ولا وقعه الكبير في مقتلة هذا العدد الكبير من القادة رفيعي الشأن وإنما لأن الاعتداء جرى على مبنى هو مقر دبلوماسي يتمتع بالحصانة حسب القانون الدولي وهو يعتبر في العرف القانوني أرضا إيرانية . فالأمر متعلق إذن بهجوم مباشر يستهدف السيادة و القيادة و حتى الكرامة و من هنا فهو مختلف تماما عما اعتادت إسرائيل على القيام به من استهدافات متكررة لقيادات الحرس الثوري في سوريا خلال الأعوام الماضية و التي تعاملت غالبا معها إيران من منظور الصبر الإستراتيجي و منطق التجاوز .
ومن هنا فلا مندوحة اليوم لإيران من الرد على هذا الاستفزاز المقصود و التحدي المباشر غير المسبوق لها وهي القوة العسكرية الإقليمية الكبيرة التي تعلن عن نفسها وتعتد بمكانتها كصاحبة ثورة إسلامية ضد الاستكبار العالمي وتتكئ على ميراث قومي راسخ لأمة فارسية عظيمة ذات تاريخ إمبراطوري .
و الواضح أن الاستجابة لهذا الاختبار هي محط أنظار الجميع إذ يرمق السلوك الإيراني الخصوم والأعداء بقدر ما تشخص إليه عيون الحلفاء والمقتدين .بيد أن الرد و إن كان ضروريا بل لازما فتنزله يطرح في واقع الأمر معضلة إستراتيجية عويصة في توقيته و موضعه كما في طبيعته و مداه وأيضا وهو الأهم في مآلاته وما قد يترتب عليه أو ينجر عنه.
فمن حيث السياق العام لا تبدو إيران معنية بإشتعال حريق إقليمي كبير و واسع النطاق مهما كانت نتيجته النهائية إذ أنها قد تخسر بسببه الكثير داخليا و إقليميا لا سيما إذا انجرت إليه أمريكا التي هي الأخرى تتجنب ذلك السيناريو الكارثي لأسباب بديهية تتراوح ما بين الأولويات الاستراتيجية لها كما ظرفية الاستحقاقات الانتخابية .
ولعل تقديرات صاحب القرار الإيراني تصب الآن في أن وقت المنازلة الكبرى و النهائية مع اسرائيل لم يحن بعد و إنما الجميع فقط بصدد جولة محتدمة و مؤلمة للفلسطينيين لكنها ستنتهي لهم بنوع من الظفر المرحلي المخضب بالدماء وبالمقابل ستخرج إسرائيل حتما بجروح غائرة ونازفة بل و حتى بتهتكات في البدن فضلا عن تصدعات جدار الردع و انكسار الثقة النفسية بالذات و المستقبل .
فمنطقيا المطلوب إيرانيا هو الضغط لوقف هذه الحرب المجنونة وحصرها لا توسيعها ، حفاظا على مكاسب الطوفان المتحققة ، سيما أن الظروف بدأت تنضج لذلك نتيجة حالة المأساة الواقعة وتكثف الضغط الدولي في ظل حالة المراوحة العسكرية الميدانية العقيمة والآثمة .على الجانب الآخر لا تبدو إسرائيل في نفس وارد ما سبق لا سيما أن رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو يرى في استمرار الحرب وتوسيعها استثمارا سياسيا بل وطوق نجاة له شخصيا من السقوط والمساءلة و من هنا فهو ربما صاحب المصلحة الأولى بإشعال مثل ذلك الحريق لا سيما في ظل التوجه العارم بإنحسار الدعم الغربي و تكثف الضغوط الدولية عليه على ضوء ما أسفرت عنه حربه المسعورة في غزة من إبادة و مجاعة في ظل غياب الحسم وانفلات غطرسة القوة.
فإذن إسرائيل تحت نتنياهو حين أقدمت على ما أقدمت عليه ضد القنصلية الإيرانية بدمشق سعت بالتأكيد لاقتناص فرصة تبغي منها الإيلام والإذلال و الردع لكنها ربما أيضا كانت تجازف أو تسعى حقيقة لاستدراج إيران و حزب الله وبقية المحور لصراع واسع يخلط الأوراق يغطي على محنة غزة و تستعيد من خلاله الدعاية الإسرائيلية الصورة الذهنية النمطية لها بوصفها "داوود ضد جالوت" أي فرد صغير شجاع و مبارك في مواجهة بحر من الأعداء المتوحشين ، مما قد يسهم في وقف أو حتى عكس المسار المطرد لتراجع الدعم الغربي و يحد من اضمحلال الصورة الأخلاقية لإسرائيل في الوعي العالمي والتي تكاد تلامس وضع الدولة المنبوذة و المارقة.كما أن مثل ذلك الصراع الإقليمي الواسع إن حدث ولا سيما مع انجرار أمريكا له و لو مكرهة سيعطي لإسرائيل الفرصة لتعوث فسادا في العديد من دول الإقليم بحيث ستراهن أنما ستحدثه من تدمير ممنهج وأضرار واسعة النطاق قد يصب في خانة استعادتها لبعض من هيبة ردعها المهدورة في العالم و الإقليم و ذلك منذ السابع أكتوبر كما أنه وهو الأهم سيوفر الفرصة والغطاء للهجوم ومحاولة التخلص من البرنامج النووي الإيراني المؤرق لها و من هنا فلربما أيضا ينسى العالم في غمار وغبار مثل ذلك التصعيد الكبير غزة و مأساتها و رفح و اقتحامها .غير أنه مع ذلك ينبغي التنويه بأن إسرائيل المنهكة كثيرا و المنقسمة و المأزومة ليست في وضع مريح يسمح لها بخوض مثل هذه المغامرة المهلكة أي سعيها إلى إشعال حرب إقليمية تشترك فيها إيران وحزب الله وأنصار الله و المقاومة العراقية و ربما سوريا وطبعا الساحات الفلسطينية كافة بحيث ستتساقط عليها يوميا آلاف الصواريخ من كل حدب وصوب و هي التي ظلت عقيدتها تقوم على تفادي خوض حرب على أكثر من جبهة في نفس الوقت لا سيما أنها قد تواجه إضافة للتهديدات الجوية إمكانية حرب برية أو حتى شعبية على الأقل في الجبهة اللبنانية (و/أو) السورية اللهم ألا إذا كانت إسرائيل تعول يقينا على انخراط أمريكي إلى جانبها او أنها تعتزم استخدام السلاح النووي إذا ساءت الأمور كما هو راجح في مثل هكذا صراع و هو ما سيعني إن حدث نزعا كاملا لشرعيتها و توقيعا على شهادة وفاتها.و انطلاقا من هذه الخلفية فما هي خيارات إيران في الرد على إسرائيل ؟
لقد تم تجاوز مسألة هل يمكن لإيران أن تعمل بما كانت تراعيه من صبر استراتيجي في مواجهة الصلف الإسرائيلي المعتاد إذ أن الرد الإيراني قادم و ومعلن و حتمي و هو وارد على لسان المرشد الأعلى خامنئي نفسه و باللغة "العبرية " و هو رد موصوف بأنه سيكون (صفعة مؤلمة تجعل إسرائيل تندم) .
ثم إن التعرض للقواعد الأمريكية من طرف إيران ضمن ذلك الرد هو الآخر مستبعد لخطورته أصلا و لتحذير أمريكا من ذاك إضافة إلى نأيها بنفسها عن الموضوع حيث أوصلت لإيران أنها لم تشترك في هجوم دمشق ولم تعلم به قبل حدوثه.لكن كيف إذن سيكون هذا الرد الذي بدأت إسرائيل تخمنه و تتحسب له و تتجهز له بإعلان حالة الطوارئ في سلاح الجو و بالتشويش على نظام المواقع الدولية GPS؟فمن حيث التوقيت لا ينبغي أن يتأخر كثيرا لكن لدى إيران ما ترتبه قبل أن تقوم تلك الضربة الانتقامية المحفوفة بالمخاطر.
فمن جهة كانت إيران محتاجة لبعض الوقت لتشييع الشهداء وهو ما تم اليوم (يوم القدس ) ثم لتهيئة الضربة بعد اتخاذ القرار وأيضا تحتاج لفسحة لأخذ عديد الاحتياطات لما يستقبل من أمور و التي لا يعرف أحد أين ستسير التطورات.
وعلى مستوى مسرح سوريا ولبنان كان من الضروري تبديل قيادة الحرس الثوري التي تم القضاء عليها بالكامل بأخرى جديدة و استلام الأخيرة للأمور لا سيما في ضوء خطر وقوع حرب شاملة.ثم هناك قضية التحقق من مسألة الاختراق الأمني العميق على ضوء كون إسرائيل انتظرت خروج الدبلوماسي(القنصل )لتقوم بالضربة مما يفترض اختراقا خطيرا.
لكن الموضوع ربما قد يكون ناتجا عن إمكانيات تكنولوجية أكثر مما هي قضية مخبرين مندسين.فهناك الذكاء الصناعي و تقنية التعرف على الوجوه و أيضا الطائرات الصغيرة (Drones miniaturisés) المزودة بالكاميرات وأجهزة الاتصال و التي يمكن أن تظهر في أشكال غير ملفتة كالطيور أو الحشرات قد يكون كل ذلك أو بعضه هو كلمة السر فيما حصل من اختراق أمني .لا يمكن الجزم بتوقيت محدد للرد ولكن يجب توقعه على الأقل يوما قبل عيد الفطر أو أن يكون مباشرة بعد العيد.لكن أين سيكون الرد او أين ستقع الضربة؟
الرد في أعالي البحار على السفن المدنية لا يفي بالغرض أصلا و هو غير مناسب أما على السفن العسكرية فهو سيفضي إلى لعبة الرد و رد الفعل و هو ما سيشكل خطورة على السفن الإيرانية في البحر الأحمر بل البحار الأبعد لا سيما أن ذراع إسرائيل الجوية طويلة جدا.أما الرد من خلال التعرض لدبلوماسيين في بلد آخر فهو غير مناسب أيصا و حتى لا كافيا هو الآخر لأنه لا يفي بالغرض ويمكن أن يخلق أزمة دبلوماسية مع الدول التي يستهدف فيها الدبلوماسيون الإسرائليون ويمكن أن يوصم مثل ذلك الرد بأنه عمل إرهابي إضافة إلى كونه قد لا يكون متاحا في وقت قصير على ضوء الاستنفار الاسرائيلي الكبير في البعثات الدبلوماسية وغلق الكثير منها مؤقتا (28 سفارة وقنصلية) لكنه يبقى مع ذلك خيارا تكميليا في المستقبل عندما تتاح الظروف.يبقى الخيار المطلوب و المتاح و هو رد عسكري مباشر على إسرائيل و في عرينها كمهاجمة القواعد الجوية التي انطلقت منها الطائرات الإسرائيلية التي دمرت القنصلية و كذلك بعض المراكز و المنشآت الاستخبارية .
لكن في مهاجمة الأراضي تحت السيطرة الإسرائيلية يمكن التمييز بين أراضي 48 التي تعتبر "أرضا إسرائيلية" من منظور القانون الدولي وبين الجولان السوري المحتل .و الرد بمهاجمة إسرائيل في الجولان السوري هو أقل حساسية و أولى في تفادي التصعيد و ردود إسرائيلية معاكسة لا سيما أن الهجوم الاسرائيلي كان على أرض إيرانية داخل سورياوليس داخل إيران نفسها وبالتالي فمهاجمة الجولان هو من جنس العمل اي الرد على إسرائيل في جغرافيا سورية مستباحة وإن كانت إسرائيل تعتبر الجولان أرضا إسرائيلية بعد قرار ضمها الباطل.ثم إن ضرب إسرائيل في الجولان هو نظريا أسهل من عمل ذلك في العمق الإسرائيلي حيث تتكثف المضادات الجوية و تتراكب. ويوجد في الجولان أهداف إسرائيلية دسمة ليس أقلها القاعدة الأستخبارية على جبل الشيخ.
و الرد ليكون رادعا و مشرفا يرفع التحدي ينبغي أن يكون بتوقيع إيراني كما تتوقع ذلك إسرائيل وأمريكا وليس عبر الوكلاء سواء كانوا لبنانيين أو عراقيين أو يمنيين و إن كانوا سيكونون جاهزين للإنخراط في حالة الدخول في دوامة الأفعال وردود الأفعال بين إيران و إسرائيل. ويبقى السؤال الإضافي من أين سيأتي الرد الإيراني ؟ هل سيكون قادما من داخل إيران فقط أو من طرف قواتها داخل سوريا أو أنه سيأتي من كليهما و هو الأرجح وذلك للإستفادة من اختلاف المديات وتكاملها بحيث يتم استخدام كافة الطيف الصاروخي الإيراني بغية إغراق الدفاعات الإسرائيلية و بحيث يصل العدد الكافي للتأثير حتى و لو تم اعتراض الأغلبية.
لكن ما هي الوسائط التي ستقصف بها إيران من داخل أراضيها؟ تتحدث التقديرات الأمريكية عن الطائرات بدون طيار من طراز "شاهد" والصواريخ المجنحة (كروز) وذلك لأنها وسائط مرنة ومساراتها غير مرصودة كالصواريخ البالستية التي يسهل اعتراضها.في الشهور الماضية كانت إيران تتحدث عن صواريخ بالستية و مجنحة (كروز ) فرط صوتية تناور وتغير مساراتها مما يصعب اعتراضها فهل صارت هذه الأسلحة عملياتية لاستخدامها الآن.
التقدير الراجح أن الضربة لن تكون متطاولة ولكنها ستكون مكثفة وربما ستجرب فيها إيران معظم أجيال صواريخها في حفلة مصارعة حية مع الدفاعات الإسرائلية وربما ستطلق معظم الصواريخ من جهة حدود كردستان العراق لتفادي الاعتراض في الطريق من طرف الأمريكيين الذين سيسعون جاهدين مع ذلك لتفادي رد فعل إسرائيلي متهور بعد الضربة كما أنهم بالتأكيد سيكونون قد تواصلوا عبر وسطاء مع إيران لطلب عدم المغالاة في الرد بشكل مستفز لإسرائيل .
و لعل المكالمة" الحازمة" لبايدن مع نتنياهو بالأمس حول إنهاء الحرب في غزة وتخفيف المعاناة فيها و بداية انصياع نتنياهو فيها شيء من الغزل الاستباقي على الضربة بحيث يقال إن تلك القضية المهمة لدى إيران وحلفائها هي الآن على طريق الإنهاء دون انتصار إسرائيل أو هزيمة حماس فلا داعي لتطور عسكري يفسد ذلك الأفق.لقد راكمت إسرائيل في الأيام الأخيرة العديد من الأخطاء والخطايا لعل من بينها ضربة دمشق والرد عليها الذان سيؤسسان لقواعد لعب جديدة تحد مما كان لدى إسرائيل من عربدة في الساحة السورية.
السلام عليكم
محمد ولد شيخنا