يقال أن أخلاق (la morale ) الدول تختلف عن أخلاق الأفراد و مع ذلك تبقى نقاط الالتقاء كثيرة و سلم القيم متداخل .أبدا ليس عبثا استحضار القيم و الأخلاق في التعامل ما بين الدول و التي عادة ما تكون العلاقات بينها محكومة في الأساس بالمصالح حيث المشاحة لا المسامحة.
وعلى الخصوص ليست العلاقة ما بين الدول المتجاورة كغيرها فهي قدر لا فكاك منه و حتمية مستقرة تفرض نفسها .
غير أن علاقات الجيرة البينية تلك وإن كانت تستند على أسس راسخة من المصالح و الحقائق الأخرى العنيدة فإنها مع ذلك معرضة للامتحان و التقلب إذ قد تنتقل بشكل درامي من واقع الأخوة و التقاسم و الشعور بالمصير المشترك إلى الخصومة الكامنة و حتى العمل العدائي .
و مع ذلك سيبقى الجار جارا حتى و لو جار و مهما يحدث أو يصير معه .
سياق هذا الكلام هو ما تعيشه أو عاشته مؤخرا الحدود مع الشقيقة مالي من أوضاع صعبة و أحوال غير مقبولة بل مفزعة .
حقيقة لقد كان مثلجا للصدور و مشعرا بالطمأنينة ذلك المنحى الملاحظ في السعي الحريص إلى احتواء الوضع عبر التواصل والمباشر بين القيادة العليا في البلدين و كذلك التواتر في تبادل زيارات الوفود الرفيعة و ما تسرب عن كل ذلك من تأكيد على الأخوة والعلاقة المتينة مضافا إليه راسخ الرغبة المشتركة في تحقيق التقدم بشأن حلحلة المشاكل و وضع الآليات لضبط الأمور .
فذلك لعمري هو عين التبصر و الأليق بقيادة بلادنا التي تتسم بالحكمة والرشد بعيدا عن التأثر بالمزايدين و العاطفيين أو الانسياق وراء نافخي الكير و أصحاب الشطط و لو عن حسن نية .
نعم هذا وقت الحلم و التجمل بالصبر "الاستراتيجي" إزاء وضع معقد وملتبس وحتى خطير ؛ و الدواعي لذلك لا تنقص :
- فأولا من الناحية الظرفية ليس هذا وقت التصعيد إذ تقف بلادنا على بعد شهرين من انتخابات رئاسية مفصلية تتطلب قدرا عاليا من الهدوء والسكينة والظرف المستتب .
ومن جهة أخرى فبلادنا أيضا تضطلع بمهمة الرئاسة الدورية للاتحاد الإفريقي و هو تشريف حصلت عليه بالتزكية فالمنتظر و المطلوب منها هو العمل على حل مشاكل القارة لا أن تزيدهم بواحد جديد تحت أي ظرف و مهما يحصل .
- ثانيا: للأسف يعيش الجار المالي منذ ثلاث سنوات مرحلة من الفوران غير المسبوق كما يتسم النظام الحاكم هناك بقدر عال من الجرأة و الاندفاع(La fougue ) و الأخذ بالحسابات الحدية حيث استمرأ السير على حافة الهاوية .
و بهذا الصدد فيمكن الملاحظة أنه خلال الفترة الماضية قد دخل على المستوى الخارجي في اختبار قوة شديد الوطأة مع منظمة "سيدياو" التي حاصرته اقتصاديا و قد لعبت بلادنا دورا محوريا في مساعدة الجار المالي على تجاوز تلك المحنة و بالتوازي و حتى التزامن مع تلك المواجهة المحتدمة مع تلك المنظمة الإقتصادية الإقليمية فقد انخرط أيضا في معركة كسر عظم مع فرنسا انتهت بإخراج تلك القوة الاستعمارية بجيشها و رجلها نهائيا من مالي ثم اتبع ذلك بطرد قوات الأمم المتحدة (مينيسما ).
و هو يوجد حاليا في خضم احتكاك متفاعل و محفوف بالمخاطر مع جارته الكبرى الجزائر ، التي هي دولة إقليمية مرهوبة الجانب .
وعلى المستوى التعامل الداخلي فلا يقل مستوى التجاسر ولا منسوب التوثب ، ذلك أن النظام في باماكو قد عمد في الأشهر الأخيرة إلى إلغاء اتفاقية الجزائر الإطارية مع الأزواديين و مؤخرا قام بتعليق عمل جميع الأحزاب والهيئات في البلد بعدما طالبته بالعودة السريعة للحكم المدني .
و في الأحوال العادية فإن التداعيات المحتملة لواحد فقط من هذه العوامل و التحديات السابقة من شأنه أن يكون كفيلا بجعل اي نظام يشعر بالتهديد و الضيق فما بالك ممن جمعها كلا على نفسه و في ذات الوقت .
بالعكس لا يظهر الحكم في باماكو أية إشارة بأنه في ورطة أو أن ظهره مسند إلى الحائط بل على النقيض فهو يتصرف كما لو كان لديه هامش تحرك و فائض عزيمة و قوة بل إن مراهنته الأساسية في الوقت الحاضر في الخروج من الشرنقة التاريخية المالية و حلحلة مشاكل الدولة المزمنة و المستعصية هي فقط باللجوء إلى القوة العسكرية والحسم في الميدان . و هو أساسا يستعين ويستند في ذلك الطموح على قوة جامحة من مرتزقة دولة عظمى هي روسيا الاتحادية و بمراكمة التسليح المتطور من مصادر متعددة فضلا عن ما صار لديه من حلفاء إقليميين مخلصين و من جيرانه المباشرين .
و تسود حاليا حالة من الحرب في كل أرجاء شمال و وسط مالي، ربما حتى تخوم باماكو و تقترب بؤرة النزاع من خط الحدود مع موريتانيا مما خلق الوضع الحالي و من غير المستبعد صحة ما يجادل به البعض حول هشاشة درجة الضبط والربط و كذلك القيادة و السيطرة من مركز القرار العسكري في باماكو على أطرافه العضوية في الميدان فما بالك بتلك الحليفة فقط من المرتزقة و هو ما يجعل ربما من مخاطبة موسكو ، بشكل معين، حول الوضع و سلوك قواتها في مالي أمرا مفيدا بل وحتى معينا .
ومن الناحية التقنية تبدو استراتيجية العمل الحالية للماليين مقاربة خطيرة لكنها مفهومة بل في غاية الوضوح وهي منسجمة مع الخيارات الحدية المعلنة في باماكو .
فقد لا يتفق الشخص معها أو يستصوبها و حتى له أن يكرهها لكنها تبقى مع كل ذلك متسقة تماما مع ذاتها ومع غاياتها المستهدفة .
و من جهة أخرى فمن الوارد جدا أن يكون ضمن دوائر الدولة العميقة في مالي بعض الأطراف ممن يحسبون على موريتانيا فيما مضى أو حاضرا شيئا في موضوع ملف أزواد و ربما قد يكون من ضمنهم من هو معني بما يسعه من ضغط و تحرش ببلادنا مع أن المنطلق السليم و المصلحة العليا لمالي تصب في غير ذلك .
- ثالثا: لا ينبغي أبدا أن يغيب عن الذهن في الوقت الحاضر أن التعامل مع مالي يعني في الخلفية التعامل مع حلف عسكري كامل قائم من دول الساحل يسمى (غورما -ليبتاكو) و هو يضم إلى هذه الدولة كل من النيجر و بوركينا فاسو .
لقد وقف هذا الحلف المتضامن بنجاح أمام دول إفريقيا الغربية القوية (نيجيريا و كوت ديفوار و معهم سابقا السنغال) في موضوع انقلاب النيجر و كان هو من انتصر في النهاية.
و هذه الدول الثلاث تتشاطر نفس النظرة اتجاه الغرب لا سيما فرنسا التي طردوها من بلدانهم جميعا شر طردة بل إن النيجر اتبعتها مؤخرا بأمريكا الدولة العظمى فسبحان الدائم و مقلب الأحوال .
لقد قرأت مؤخرا كلاما طريفا لم أعد أذكر إسم صاحبه الذي قال أنه يعتبر أن عمره صار 90 سنة لكثرة ما رأى في السنوات الأخيرة من عظائم الأمور و مما كان يعد من المستحيلات أو لا يخطر على تصور أصلا . و استطرادا يمكننا أن نورد هنا كلاما لافتا جاء منذ يومين على لسان جنرال فرنسي كبير كان رئيس هيئة الأركان المشتركة الفرنسية هو الفريق أول لكوينتر( Le Cointre) الذي لم يستبعد فيها عودة أوروبا بالقوة المسلحة إلى إفريقيا في غضون عشر سنوات.
و عودة لما كنا بصدده ، فلا ينبغي الاستهانة أبدا بحلف (غورما- ليبتاكو) أو حلف "الفقراء " فهو يشعر بالثقة و حتى بنوع من نشوة "القوة" و هو يستند لإيديولوجيا صاعدة هي "الأفريقانية" التحشيدية و ينطلق من وجهة نظرة جيبولوتكية و يحاول التعلق ب "مشروعية" وعي تاريخي إفريقي .
و يكفي لمعرفة قوة و درجة التضامن فيما بين دوله أن قواتا مشتركة من هذا الحلف هي التي دخلت جنبا إلى جنب مع مرتزقة "فاغنر" مدينة كيدال ذات الرمزية في الشمال المالي وطردت منها مجموعات الطوارق المسلحة التي كانت تسيطر عليها منذ مدة.
- رابعا : في خضم إعادة تشكل النظام العالمي الجديد على أنقاض نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية الذي يكاد يلفظ أنفاسه تبدو إفريقيا المسرح الأول و الأكبر للتنافس العالمي بين الدول العظمى , القديمة منها المتراجعة و تلك الجديدة البازغة .
و يبدو ان هذا التنافس هو أشد ما يكون الآن في منطقة الساحل الإفريقي ، على الخصوص ، حيث تدخل أيضا إلى حلبة المزاحمة بجانب الكبار بعض الدول الإقليمية الشرق أوسطية الطموحة (كتركيا وإيران مثلا) بل إن التناقضات والمشاكسات العربية البينية لها حضورها هي أيضا في المشهد .لكن اللافت أن الاصطفافات المسجلة ليست دائما خطية و متمايزة و إنما الملاحظ هو أن لكل طرف دولي أجندته وأهدافه الخاصة وهو يغني فقط على ليلاه ، مما يجعل التداخل (L'imbrication ) بين خطوط الفصل أمرا حاصلا و بدرجة كبيرة .
فهناك مثلا من هو معك في ملف لكنه قد يكون خصمك في ملف آخر وهلم جرا .وليس خافيا أن وضع التنافس والزحام الحاصل بمنطقة الساحل له تمظهرات عديدة ولعل الجانب العسكري هو أهمها بل أكثرها بروزا.
فسماوات الساحل تعج الآن بالمسيرات التركية و الإيرانية و ربما الصينية أيضا هذا فضلا عما يوجد من الطيران ذي الجناح أو العمودي من روسيا التي جاءت حتى بقوات على الأرض تدعى مرتزقة "فاغنر " و التي هي بصدد تسميتها بشكل أكثر احتراما و استدامة تحت مسمى "الفيلق الإفريقي" الروسي الذي يقال أن مقره سيكون بليبيا (شرقها على الأرجح ).
فإذن ما بين عشية وضحاها فقد أصابت هذه المنطقة الداخلية من إفريقيا و المكونة أساسا من دول حبيسة متخلفة و مسالمة حمى العسكرة و سباق التسلح بآخر ما جادت به الطفرات الجديدة في وسائط القتال غير التقليدية .
لقد كان نصيب الجار المالي معتبرا من ذلك ولا سيما من المسيرات القتالية التركية الشهيرة بيرقدار TB2 وأيضا من طائرات الدعم الأرضى الروسية الفعالة سوخوي 25 والتي توصف بأنها مدرعة طائرة و من المناسب هنا ذكر ما ورد في تقارير من العام الماضي بأن إحداها ضربت بصاروخ في الحرب إلروسية الأوكرانية الحالية وسقط جناحها لكنها عادت سالمة لتهبط في قاعدتها بسلام، هذا فضلا بالطبع عن أنواع من الهليكوبترات المتطورة .
ولا يبدو أن روسيا العائدة بقوة للمسرح العالمي و الأفريقي خاصة و من المدخل العسكري ستكون بالمرة بخيلة على حلفائها الجدد بالساحل وعلى رأسهم دولة مالي بأي عتاد يحتاجونه و يستطيعون استيعابه.
في المقابل لا يبدو الغرب بالمرة بنفس الكرم والاستعداد لمد حلفائه في الساحل أو من يحسبون عليه في تلك الصفة حقا أو باطلا . فدول الغرب "متباخلة "و هي حريصة على حماية تكنولوجيا معداتهم فلا يبيع الأمريكيون مثلا طائراتهم المسيرة المتطورة أبدا إلا في حدود ضيقة و لحلفاء مخصوصين كما أنهم لا يهدون كما تفعل روسيا وإيران وتركيا التي نرى كيف اضطرت مسيراتها (بيرقدار TB2) مقاتلي الطوارق الأشاوس للاحتماء من بأسها بغابة "واقادو" حيث معاقل بعض من يدعون ب"الجهاديين" مما أدى للاحتكاك مؤخرا بين الطرفين .
و من المستبعد أيضا أن تمنح الأطراف الغربية أيضا حتى الأجيال القديمة من طائرات الدعم الأرضي الغربية المكافئة للسوخوي 25 الروسية الموجودة في الخدمة حاليا لدى دولة مالي مثل طائرات جاكوار الفرنسية المشهورة أو الطائرات الأمريكية القديمة من طراز A10 Thunderbolt التي تدعى هي أيضا الدارعة الطائرة أو قانصة الدبابات .
كما لا يبدو بديهيا في غياب التزويد بالأسلحة الهجومية الغربية الحصول منهم على أنظمة دفاع جوي لتحييد خطر الطيران ولو تلك المحمولة منها على الكتف كصواريخ "إستيغر" الأمريكية أو صواريخ " ميسترال" الفرنسية .قد تجد الغرب يبدي اهتماما بالحصول على موطئ قدم أو قواعد لا سيما بعد مغادرة كامل الفضاء الساحلي . كما لا يستبعد أن تجد من يقترح عليك أو يراود على التحالف مع إسرائيل كعامل توازن لروسيا ؟!
في المقابل لا يبدو الأتراك أو الإيرانيون و حتى الصينيون متمنعين عن التزويد بما لديهم من معدات أو أنظمة أسلحة و هم لا يبدون كمعنيين أبدا بإحداث اختلال في التوازن العسكري بين دول المنطقة بل إنهم قد يكونون متفهمين و ربما متعاطفين اتجاه موريتانيا ، فدوافع تلك القوى هي جيبولوتكية كالتنافس مع الغرب عموما أو بعض دوله وكذلك الحصول على الأسواق أو المواد الأولية المهمة و أيضا النفوذ و الحضور.
في نهاية هذا المكتوب لا ينبغي أن نشعر بقلق مبالغ فيه بل يجب أن تكون الثقة كبيرة بقوات بلدنا المسلحة و أن تكون محل التفاف و دعم وهي والحمد لله مجهزة جيدا بما نراه مما تظهره في استعراضاتها وربما لديها بالتأكيد ما يفوت الجمهور و تتحفظ على إظهاره .
و في الختام نود الإشارة لبعض النقاط أو المحاذير التي من المهم استحضارها :
1- يمكن توصيف الوضع الحالي في شبه المنطقة بنوع من الفتنة أو العاصفة أو الثورة .وعليه ففي كل الأحوال فالمناسب و الأحوط هو عدم التعرض لها أو الوقوف دون ضرورة قصوى في وجهها فالوقت جزء من العلاج. فالفتنة إذا أقبلت أشكلت وإذا أدبرت أسفرت ويجب اتقاء سورة الهيجان والانتظار بالثورة حتى تهدأ و تصير لها منطق الدولة،
2- الصراع ليس خيارا وإنما ينبغي أن يكون اضطرار ولكن إذا كان قدرا مقدورا فيجب أن يكون اختيار ذاتيا في التوقيت و الساحة و المستوى والأهداف لا شيئا مفروضا من الآخر و وفق أجندته و على كل حال فالنار لا بد لها من عودي ثقاب (إشهابين).
والشيء المهم هنا هو التعويل فقط و دائما على الإمكانات الذاتية وما تحت اليد .
3- ينبغي الاحتراز تماما من أي وضع يمكن تصنيفه أو قراءته من طرف المغرضين و متصيدي المياه العكرة كنوع من الصراع بين عرب إفريقيا و زنوجها أو بين طرفي الصحراء الكبرى شماليها و جنوبيها و الوعي بأنه لكل فعل رد فعل و كما تدين تدان و يبقى الأولى دائما هو تحصين الجبهة الداخلية وتمتينها.
اللهم إنا نسألك اللطف فيما جرت به المقادير.
السلام عليكم .
محمد ولد شيخنا.