ولد ابريد الليل يكتب: التحديات الاستراتيجية للديمقراطية الموريتانية/ 4

أحد, 2015-03-08 16:18

العدالة التي تستحق أن تكون هدفا أساسيا هي العدالة الكبرى ذات المضمون السياسي التي لا تحددها قوانين معينة ولكن تطبقها الدولة بكليتها، في جميع إجراءاتها بجميع مؤسساتها ووكلائها انطلاقا من مبادئ اسمى من القوانين.

 

إن هذه العدالة المتأصلة بعمق في ثقافتنا ومخيلة المواطن ربما تعبر عنها اللغة العربية بنبرة وإيقاع أكثر تأثيرا في أنفسنا بالعدل. فهي التي تُعني عندما نذكر مآثر عمر بن عبد العزيز وهارون الرشيد وصلاح الدين الأيوبي ونرمز إليها محليا ب:"عافية أحمد ولد امحمد".

 

هذا المفهوم للعدالة في إدراكنا يمتزج بالمفهوم العصري للمساواة، المساواة في الحظوظ، المساواة في الحقوق وتعبر عنه فقط دولة متجردة تقف باستمرار إلى جانب المظلوم، والضعيف وصاحب الأهلية والكفاءة.

إنه طموح عميق، إنها قيمة عليا يريدها الرجال دائما ويقبلونها مهما كانوا وهم مستعدون للتضحية من أجلها والدفاع عنها. يقول توكفيل إن الرجال يريدون المساواة في الحرية ولكن إذا لم يحصلوا على الحرية فإنهم مستعدون للموت من أجل المساواة تحت السيطرة.

 

لا عدالة مع بقايا العبودية البغيضة وبوجود مواطنين من درجة ثانية، ولا عدالة مع مواطنين فوق القانون بسبب مالهم أو سلطتهم أو أصلهم.

 

 3- تكوين الرجال:

 

إن شعبنا قليل العدد، في عالم اليوم الذي لا يرحم، لايمكنه أن يراهن على شيء سوى النوعية، والنوعية هي تكوين الرجال. تكوين الرجال ليس إنتاج مهندسي المعلوماتية والميكانيكا والأطباء ولا "أطر مقتدرة لاقتصادنا" كما يقول البعض، لأن هذا سيحصل تلقائيا أو كنتيجة لتكوين بدون تمييز وحرية الاشخاص في اختيار مهنهم وتخصصهم. كل هذا ليس هو المبرر الرئيسي ولا الهدف الأعلى.

 

تكوين الإنسان لا يبرر خارج الإنسان. إذا لم يكن الإنسان هو المرجع الرئيسي فإننا على متاهة. بدون المقياس والأساس الإنسانيين فإن السياسة تكون ممارسة فارغة من الجوهر ودون قيمة، مجرد مسرحية.

تكوين الرجال يعني ويوحي بتكوين المواطنين. ولكن علينا أن لا نفهم ذلك كما لو أنه فرض قواعد حياة بالقوة أو بالضغط الاجتماعي من أجل أن يكونوا "مواطنين جيدين". الأخلاق الاجتماعية ليست مسألة الدولة. مسؤولية الدولة هي توصيل العلم، عن طريق التعليم العام، لكي تتكون عند الطلاب الروح النقدية الموضوعية وأن تتشكل لديهم قابلية وقوة الذهن للتفكير وتتجسد لديهم استقلالية الرأي. هذه الملكة لا تتكون إلا بالفلسفة - الفلسفة هي المكان الذي يظهر فيه العقل كقوة مطلقة، يقول هيغل ـ والعلوم الإنسانية، والسياسة كفكر وليس كعلم.

 

النظام التعليمي الذي سيهيؤ لهذا النوع من التكوين لم يوجد بعد.

 

 4- مشروع اجتماعي يضمن ظروفا مادية لحياة لائقة:

 

إن الرجال لكي يشاركوا في عملية جماعية، ويحسوا أنهم معنيون وشركاء، ولكي يفوا تلقائيا بواجباتهم وفي النهاية لكي يكونوا مواطنين حقا، يجب أن لا يشعروا دائما أنهم محرومون وإنما أحيانا مستفيدون بحد أدنى من الظروف المادية، تلك الظروف التي تتيحها وسائل بلدهم: الغذاء، اللباس، السكن، والعلاج الصحي. إن شرفهم يبدأ من هنا. بدون هذا الحد الأدنى فإنهم لا يتمتعون بشرفهم. إنها لمهمة فاضلة: إعطاء المواطنين احترامهم واستقلالهم الشخصي بدخل مستقر، وبعمل دائم. إن المواطنين لا يفهمون، بل لا يقبلون، تلك المفارقة: بلد غني ومواطنون فقراء. هذا التناقض يجب أن يوضع له حد. إما أن يكون الغنى الذي يسمعون عنه أسطورة وإما أن يكون بؤسهم لا مبرر له. هناك مسألة لا تقبل الجدال وهي أن مبالغ التبذير والاختلاس الضخمة لأموال الدولة كان من شأنها أن تحسن من ظروفهم.

 

إن تحسين ظروف حياة السكان تتطلب ، من بين ما تتطلب، اختيارات سياسية واجتماعية لا غنى عنها. إن الليبرالية لن تحسن من تلقاء نفسها من الظروف المادية لشعب، بل على العكس فإن "الإصلاحات الهيكلية" لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي من شأنها أن تستمر في سحق الطبقات الفقيرة والطبقة الوسطى مع إنتاج أرقام وقحة تدل على أن الراسمالية في أحسن حالة مثالية أي أنها في أحسن حالة من الظلم. المجتمع المنهار، العائلات المدمرة، آلاف المواطنين الملقيين ضحية للبؤس، المرغمين على التسول المباشر أو المقنع، المرضى المكدسون في قاعة انتظار معرض الجثث، كل هذا لا يحرك شعور صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ولا يزعزع ثقتهم المطلقة وظافريتهم المطمئنة.

 

إنهم سيحتجون بقوة وبتسرع مهددين برفع ضمانتهم إذا استحدث مركز عمل في الوظيفة العمومية ولن يشيروا، حتى بشطر كلمة، إلى مليارات تم اختلاسها علنا.

 

يقال إن النار تتغذى بالحطب وتلتهم الهواء. تبدو هذه المؤسسات تتغذى بالبؤس وتلتهم الشعوب الضعيفة.

إن منطق ومسلمات الليبرالية المتوشحة قد وصل إلى حده.

 

إن اختيارات أخرى، نتيجة لعمق الأزمة الاجتماعية، أصبحت ضرورية ولكن بشرط ابستمولوجي أساسي وهو أن لا ينظر إلى الاقتصاد على أنه غول أو آلهة جديدة فوق الإنسان وإنما وسيلة لخدمته. إذا كان الأمر كذلك فإن نتائج الاقتصاد ستهدف إلى خلق مراكز عمل، والإدرار بدخول، ومنح دراسة، وبناء مساكن وجعل اسعار الأدوية وأسعار المواد الأولية الضرورية متناسقة مع الدخول الضعيفة.

 

يقول جون غلبرايت - وهو ربما أكثر علماء الاقتصاد تميزا في النصف الأخير من القرن العشرين ـ إن الاقتصاد هو تطبيق المعقول على الحقائق وهدفه إرضاء حاجات الإنسان الشخصية والجماعية وليس نظريات باطنية فارغة.

 

ربما لا يكون إفراطا في غلظ الذهن أن نعتقد بفائدة مبدأ اجتماعي في الحياة وأن نرى من المشروع الطموح إلى إصلاح أخطاء الماضي وتجاوزاته وظلمه وجوره.

 

 

 

عن موقع اضواء

http://www.adhwa.mr/index.php/actualites/climat/461-2015-03-05-13-08-51