كيهيدي ماضي ملهم ومؤشرات مطمئنة

أحد, 2024-07-21 15:46
أحمدو المصطف بَدَّاهَ 

منذ ما قبل الاستقلال الوطني كانت كيهيدي تجسد أنصع الأمثلة في وحدة المكونات الوطنية وتماسكها، وعلى ذلك تبرهن التحالفات الاجتماعية ذات الطابع السياسي في مختلف الحقب، والتمازج البشري الذي ما يزال إلى اليوم يطبع ساكنة تلك المنطقة بطابعه الخاص، والتبادل الثقافي الذي لا يلغي الاختلاف ولا يرى عارا في التضلع من ثقافة الآخر، ولا الانصهار معه في ذات البوتقة دون تردد أو ريبة.

ومع التجربة السياسية التعددية الأولى للبلاد كانت كيهيدي مشاركا فاعلا وإيجابيا في مختلف المحطات (1946، 1951، 1956، 1958)، وفي ذات السياق شكلت وجهة لرواد التحرر والانعتاق الوطني للإعلان عن تأسيس مشروعهم السياسي المتمثل في حزب النهضة تحت قيادة الزعيم الوطني الفذ بوياگي ولد عابدين رحمة الله عليه ورضوانه سنة 1958. 

وفي سنوات الاستقلال الأولى وفي أتون ظرف وطني كان مطبوعا بالتجاذب بين أصحاب النزعات الخصوصية الضيقة والتي أخذت من بعض المدن الوطنية آنذاك مسرحا لها وخاصة انواكشوط، كانت كيهيدي، تجسد على نحو مختلف، رؤيتها للمسألة الوطنية من خلال التعايش السلمي والتلاقي الطبيعي والوئام التام بين المكونات الوطنية المختلفة التي لم تحتضنها مدينة موريتانية آنذاك كما كانت تحتضنها كيهيدي.

وهكذا وعلى خطى حزب النهضة، وجدت الحركة الوطنية الديمقراطية (MND) المكان ملائما لبلورة مشروعها الوطني الوحدوي الذي كان يبحث جاهدا عن طريقه للتعبير عن الخروج من العباءة القومية، فكانت كيهيدي وازويرات أول أرضيتين دب على أديمهما، وأول حاضنتين رعتاه، وذلك على إثر إعلانه من طرف مؤسسيه بتاريخ 4 ابريل 1968 من قرية توكومادي التابعة لكيهيدي، وذلك من منزل العميد عينينا ولد أحمد الهادي حفظه الله ومد في عمره. 

ومع نهاية السبعينات وبداية الثمانينات شكلت كيهيدي كذلك مكانا مثاليا لإعادة تأسيس نفس الفصيل السياسي بعد ما تعرض له من خسارة لبعض قيادييه وأطره إثر فتح الحوار بين الحركة الوطنية الديمقراطية ونظام الرئيس المؤسس المرحوم المختار ولد داداه أواسط السبعينات، وهو ما حدا بالقادة الجدد إلى التركيز على الداخل وخاصة الأرياف عبر هذه البوابة الوطنية.

وفي النصف الأخير من عقد الثمانينات والسنوات الأولى من التسعينيات تأثرت كيهيدي بالتطورات التي شهدتها الساحة السياسية الوطنية بالتزامن مع بدايات التجربة الديمقراطية، وكانت حصيلة تلك السنوات وما تبعها من معالجة جزئية لملف الإرث الإنساني بالإضافة لاستقالة الدولة عن كثير من أوجه دورها الاجتماعي، سببا مباشرا في توجيه بعض قطاعات الرأي العام المحلي إلى وجهة أخرى غير التي كانت عليها، وهو ما أظهرته بوضوح توجهات الناخبين في انتخابات المرحلة الانتقالية، وخاصة رئاسيات 2007 التي طبعها التموقف الخصوصي (الاثني والثقافي).

وبعد عشرين سنة من الواقع الذي أدى إلى هذه النتيجة ومع تولي الرئيس طيب الذكر المرحوم سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله للحكم بدأ عمل جديد على تسوية هذا الملف الوطني الحساس جنبا إلى جنب مع ملف العبودية، لكن وتيرة ذلك العمل وطابعه الذي نال رضى وتزكية القوى الوطنية آنها تأثرا بالتحول الذي طرأ على نظام الحكم حيث تمت معالجة الملف بطريقة مختلفة، وبقيت بعض جوانبه تحتاج إلى معالجة واستكمال. 

وقد مثل العمل النوعي والملموس خلال المأمورية الأولى لصاحب الفخامة محمد ولد الشيخ الغزواني على مختلف أصعدة العمل الحكومي وخاصة في المجال الاجتماعي تحولا جديدا في السياسة الوطنية، إذ أثمر - رغما عن الاكراهات الكثيرة - نتائج إيجابية في فترة محدودة عكست بشكل جلي جدية النهج المتبع ومدى تبصره وتركيزه على الإشكالات الأساسية للساكنة، وبينت المستوى المطمئن للتجاوب المتزايد مع الاصلاحات التي تم الشروع فيها، وبدأت تؤتي أكلها، وهو ما تظهره المقارنة بين توجهات الكتلة الناخبة في هذا الحيز الوطني خلال الاستحقاقين اللذين تقدم فيهما صاحب الفخامة للشعب.

ففي مقاطعة كيهيدي ارتفعت الكتلة الداعمة للمشروع الوطني لفخامة رئيس الجمهورية من نسبة 25,68% من الناخبين عام 2019 إلى 41,22%، كما أعطته الرتبة الأولى على مستوى المقاطعة، ومنحته كذلك فارق 15 نقطة مائوية بين الاستحقاقين الرئاسيين، وهو الحال نفسه تقريبا على مستوى ولاية كوركول بشكل عام حيث انتقلت النسبة التي حصل عليها من 35,95% عام 2019 إلى 48,17% عام 2024.

واليوم نحن أمام معطى جديد من شأنه أن يعزز الحصيلة السابقة ويعيد الأمل لساكنة الوطن، وكيهيدي صورة مصغرة للوطن، في إمكانية تجسيد تجربة وطنية واعية ومستنيرة، وتمتلك شروط تحقيقها واستمراريتها حتى بلوغ الأهداف المتوخاة منها، من خلال تدبير حكيم وأمين لملف وطني حساس ظل مطروحا لأكثر من 35 سنة دون حل نهائي.

وغني عن البيان أن استكمال تسوية ملف الإرث الإنساني الذي تعهد به صاحب الفخامة محمد ولد الشيخ الغزواني سيكون خطوة محورية في سبيل تعزيز الوحدة الوطنية التي هي معلم أساسي من معالم طموحه للوطن، وهو الذي ما فتئ يؤكد على ضرورة التخلص من الماضي السلبي ومخلفاته وتدعيم متطلبات وأسباب مساواة الفرص والاندماج الاجتماعي من خلال الاستمرار في السياسة الاجتماعية التي تعطي الأولوية للمواطنين المغبونين وتوسعتها وتدعيمها بمضاعفة العمل على تثوير الاقتصاد الريفي ذي الصلة المباشرة بحياة المواطنين الأكثر هشاشة.

 أحمدو المصطف بَدَّاهَ