ترجمة شخصية و"سريعة" لمقابلة أجرتها إذاعة فرنسا الدولية مع عالم الاجتماع والطبيب وعضو معهد فرنسا، السيد ديديي فاسينه، حول كتابه الجديد : "فشل غريب. حول القبول بتدمير غزة" (Ed. La Découverte).
الصحافي : فيما يتعلق بالطريقة التي وصفت بها الحرب التي شنتها إسرائيل على غزة، تقول إن اللغة قد تضررت. في جميع الصراعات، إلى جانب المعركة على الأرض، هناك دعاية، معركة كلامية. يبدو أننا في هذا الصراع وصلنا إلى الذروة.
الكاتب : الحرب تحشد القوات والأسلحة والاتصالات. لقد طورت إسرائيل هذا الأمر ووضعت نظريات الهسبارا، وهي دعاية تهدف إلى إنتاج خطاب رسمي يبالغ في دعم المواقف والسياسات الوطنية. المشكلة هي أن الحكومات ووسائل الإعلام الغربية قد تبنت هذا الخطاب دون تمحيص. كان هناك حديث عن "الحرب بين إسرائيل وحماس". ومع ذلك، أكد الرئيس الإسرائيلي أن «الأمة بأكملها مسؤولة» وأنه يجب «محاربتها حتى يكسر ظهرها». واستشهد رئيس الوزراء بالمفهوم التوراتي للعمالقة، قائلا إنه من الضروري "قتل الرجال والنساء والأطفال والرضع" لهذا العدو لإسرائيل. وأعلن نائب رئيس الكنيست أنه من الضروري "إزالة قطاع غزة من على وجه الأرض" ؛ ويمكن للمرء أن يضاعف اقتباسات مماثلة من القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين. لكنها لم تكن مجرد كلمات. لقد أعقبتها أعمال مثل قصف المدنيين حيث أمرهم الجيش باللجوء، وفرض حصار يهدف إلى إحداث المجاعة، وتدمير جميع الموارد الضرورية لإبقاء السكان على قيد الحياة، بدءا بالمستشفيات.إنها في الواقع الطريقة التي فرضت لسرد الأحداث التي وقعت من 7 أكتوبر فصاعدا والتي تم إخضاعها لشرطة لغوية تحدد ما يجب قوله وما لا يمكن قوله. في مكاتب تحرير العديد من وسائل الإعلام الغربية الكبرى، فرضت عناصر لغوية، كما أكد لي بعض الصحفيين في الحالة الفرنسية وكما أثبتت التحقيقات التي أجريتها على مستوى الصحف اليومية الأمريكية الرئيسية. لقد طلبت صحيفة نيويورك تايمز من الصحفيين عدم استخدام كلمات "فلسطين" و "الأراضي المحتلة" و "مخيمات اللاجئيين"، و استبدالها ب "الأحياء". وبالنظر إلى الأوامر التي تلقوها من رؤسائهم، استخدم مراسلو هذه الصحيفة، على التوالي، 22 و 53 مرة أكثر للإشارة إلى "مجزرة" و"تقتيل" ضد الإسرائيليين أكثر منها ضد سكان غزة.وتم ربط الدعوة إلى وضع حد لقصف المدنيين الفلسطينيين بمعاداة السامية. أما التلويح بالعلم الفلسطيني، فتم ربطه بتمجيد الإرهاب...
الصحافي : بأي طريقة يرتبط هذا الوضع بما تسميه "الموافقة على تدمير غزة"؟
الكاتب : تتجلى الموافقة بطريقتين. بشكل سلبي، على سبيل المثال من خلال التزام الصمت إزاء مذابح الفلسطينيين أو عدم التصويت لصالح قرارات الأمم المتحدة التي تدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة. ومن خلال التحركات، خاصة الذهاب إلى القدس لتقديم الدعم غير المشروط للعملية العسكرية الانتقامية أو من خلال التزويد بقنابل تستعمل للتدمير والقتل.لكن هذه الموافقة رافقها أيضا قمع أولئك الذين استحضروا التاريخ الذي سبق مأساة 7 أكتوبر وجعل من الممكن فهم عنفها ، وحتى الذين طالبوا ببساطة بالبحث عن سلام عادل واحترام القانون الدولي. لقد اتهموا بمعاداة السامية. إن انتقاد السياسات المدمرة لحكومة مؤلفة من وزراء من اليمين المتطرف، وداعمي التفوق العرقي والديني، وانتهاك القانون الدولي، ومتهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، يوصف اليوم بأنه معاداة للسامية.وتجدر الإشارة إلى أن المفكرين اليهوديين الكبيرين بريمو ليفي وجان أميري، وكلاهما من الناجين من المحرقة والمدافعين الكبار عن إسرائيل، لم يترددا في انتقاد حكومة هذا البلد بسبب سياستها في الضفة الغربية وحربها في لبنان. ومن المحتمل أن يتهموا اليوم بمعاداة السامية.
الصحافي : كتبت أنه قبل 7 أكتوبر 2023 ، لم يكن للقضية الفلسطينية سوى صدى ضعيف وأنه بعد هذا التاريخ ، لم يعد من الممكن الدفاع عن بقاء الشعب الفلسطيني ... هل هذا يعني أن هذه الموافقة على تدمير غزة بدأت قبل 7 أكتوبر؟
الكاتب : يقول عالم الاجتماع الإسرائيلي ليف لويس غرينبرغ إن "المقاومة الفلسطينية عالقة في فخ: عندما تستخدم العنف، يتم قمعها، وعندما تحاول التفاوض الدبلوماسي، يتم تجاهلها". في السنوات الأخيرة، اختفت "قضية فلسطين"، كما كتب إدوارد سعيد ذات مرة، من جداول أعمال المجتمع السياسي الدولي، الغربي والعربي على حد سواء. وفي الوقت الذي يتسارع فيه استعمار الضفة الغربية عبر هجمات عنيفة على السكان الفلسطينيين، وفي حين أدى خنق غزة بالحصار إلى انهيار الاقتصاد المحلي، وفي حين تسببت حملة قمع الاحتجاجات السلمية في مسيرات العودة في مقتل المئات وتشويه الآلاف، وبينما أعلنت الحكومة الإسرائيلية استعدادها لتأكيد سيادتها على فلسطين بأكملها، من البحر إلى الأردن ، لم يحرك المجتمع الدولي ساكنا.لم يكن الاتحاد الأوروبي مهتما بمصير الفلسطينيين ، ونقلت الولايات المتحدة سفارتها بشكل غير قانوني إلى القدس، وانشغل العديد من دول الخليج بالتوقيع على اتفاقيات مع إسرائيل بهدف تطبيع علاقاتها بها وتشجيع إنشاء سوق إقليمية كبيرة.لم يتم الاقتباس من بيان حماس في رواياتنا، في شرحها لأسباب هجوم 7 أكتوبر: "ماذا يتوقع العالم من الشعب الفلسطيني أن يفعله ردا على الضم التدريجي للضفة الغربية والقدس، والحصار المفروض على غزة، وآلاف السجناء المحتجزين دون تهمة " وأخيرا "فشل المجتمع الدولي وتواطؤ القوى العظمى في الحيلولة دون إقامة دولة فلسطينية ؟". ومن الواضح، بالنسبة لي، أن المسألة ليست مسألة تبرير هذا الهجوم، بل محاولة فهم ما أدى إليه. قبل بضعة أشهر من 7 أكتوبر، أعلن وزير المالية والمستعمرات الإسرائيلي أن الشعب الفلسطيني غير موجود. ومنذ 7 أكتوبر ، عمل جيش بلاده على جعل هذا الادعاء حقيقة واقعة.
الصحافي : لقد قتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين وتم محو ما يشكل روح الشعب، كما تكتب. ماذا عن تغير جذري محتمل للهرم العمري في غزة؟
الكاتب : هناك أكثر من 44000 حالة وفاة وفقا لوزارة الصحة في غزة، 70٪ منهم من النساء والأطفال، وفقا للأمم المتحدة، وهو ما يعني على الأرجح أكثر من 90٪ من المدنيين، حيث أن ال 30٪ المتبقية من الرجال، أقلية فقط هم أعضاء في حماس. لكن هذه الأرقام يتم التقليل منها إلى حد كبير، ليس فقط من خلال تجاهل آلاف الأشخاص الذين هم تحت أنقاض المباني أو مدفونون في مقابر جماعية ، بل لأن الحرمان من الغذاء ، وتدمير المستشفيات ، ومشاكل النظافة ، وتفشي الأوبئة تؤدي إلى زيادة كبيرة في الوفيات غير المريبة، وخاصة بين الفئات الأكثر هشاشة. في حالات حرب أخرى ، مثل العراق أو أفغانستان ، أظهرت الدراسات الوبائية أنه من الضروري ضرب الأرقام الرسمية أربع مرات على الأقل لمعرفة العدد الحقيقي للوفيات الناجمة. لكن في هذه البلدان ، لم تكن هناك مجاعة، وكان النظام الصحي يعمل، ولم يتم تدمير البنية التحتية الأساسية. وبالتالي، من المرجح أن يكون الضارب أعلى بكثير في غزة، وإذا تم السماح بإجراء تحقيقات صارمة، فمن المرجح أن يتجاوز عدد القتلى 200,000، أي حوالي 10٪ من السكان.من الصعب معرفة كيف سيتأثر الهرم العمري. غير أن الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن نتخيل كيف ستكون حياة كل هؤلاء الأطفال الباقين على قيد الحياة الذين يعانون من سوء التغذية، وسيعانون من المضاعفات النفسية والتشويه البدني، ومن آثار وفاة والديهم وأقاربهم، وسيحرمون من التعليم بسبب تدمير المدارس. كان الهدف المعلن للحرب هو جعل غزة غير صالحة للعيش. سيكون هذا هو الحال بالنسبة للكثيرين.
الصحافي : لقد ذكرت حقيقة أن المسلمين أصبحوا "اليهود الجدد". ما هي حقيقة هذه الفكرة ، والتي قد تبدو للوهلة الأولى استفزازية؟
الكاتب : أشير إلى صيغة يمكن قراءتها في بعض النصوص: "المسلمون هم اليهود الجدد"، وأود أن أشير إلى أنني لا أعتقد أن العنصرية ضد المسلمين قد حلت محل معاداة السامية. يتعايش الاثنان ، ولهما تاريخ مختلف - كلاهما قديم جدا ، بالمناسبة ، في أوروبا - ولهما مظاهر مميزة. لكن الدراسات الاستقصائية التي أجريت في فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة وأماكن أخرى تظهر أنه في حين أن كلتا الظاهرتين مقلقتان ويجب أن تؤخذا على محمل الجد، فإن العنصرية ضد المسلمين أصبحت طبيعية، حتى لدى بعض السياسيين، في حين يتم إضفاء اللاشرعية على معاداة السامية ومحاربتها، وهو أمر إيجابي. ومن المؤكد أنه لا يمكن للمرء أن يتجاهل -بموافقته على تدمير الفلسطينيين- الأبعاد الثلاثة للإقصاء الذي يصيبهم ظلما، كعرب ومسلمين في الغالب ومرتبطين بحركات تصفها الدول الغربية بأنها إرهابية.
الصحافي : بعض الانتقادات الموجهة إلى كتابك شديدة الحدة ومتسرعة، ولا يبدو أنها تتناسب حقا مع المفهوم الذي يمكن للمرء أن يتبناه للنقاش الفكري. هل أتيحت لك، رغم ذلك، الفرصة للمناقشة وعرض حججك في وجه المنتقدين المحتملين؟
الكاتب : تصوري للفضاء العام هو أنه يجب أن يكون من الممكن المشاركة من خلاله في المناقشات والتعبير عن الاختلافات. لم أتجنب أبدا المناقشة ، بل قمت بالرد بشكل منهجي على الانتقادات الموجهة إلي. لكن التناقض يجب أن يعالج بالحجج وليس باستبعاد المحاور. ومن المؤسف أن قاعدة السلوك هذه، التي التزمت بها دائما، لم يحترمها بعض منتقدي.تكمن مشكلة عنف الهجمات وتخصيصها في أنها تؤدي إلى خلق مناخ من الترهيب أدى إلى الرقابة والرقابة الذاتية على حد سواء. لأكثر من عام، كان هناك تدهور كبير في نوعية النقاش العام، بما في ذلك في وسائل الإعلام السمعية البصرية، في العديد من البلدان الغربية، بما في ذلك فرنسا والولايات المتحدة. وفي هذا الصدد، يسعدني أن إذاعة فرنسا الدولية تعتمد نهجا منفتحا، كما ينبغي أن يكون عليه فضاء التبادل الفكري. ربما لأنها على اتصال بمجتمعات متنوعة وبالتالي وجهات نظر مختلفة، الشيء الذي يفرض الابتعاد عن الفكر الأحادي.
الصحافي : عنوان كتابك هو إشارة إلى مارك بلوخ. هل تعتقد أنه في يوم من الأيام سيدخل معارضٌ للحرب في غزة في البانثيون؟ من المؤكد أن فولتير و جان جوريس، لو كانا علي قيد الحياة لكانا أول المدافعين عن الشعب الفلسطيني.
الكاتب : تذكرت كتاب "الفشل الغريب" حتى قبل أن أكتب السطر الأول من كتابي. أنا على دراية بمؤلفها، الذي تحدثت عن التزامه بإسهاب في بداية محاضرتي الافتتاحية في معهد فرنسا، قبل عامين، بعنوان "العلوم الاجتماعية في أوقات الأزمات". في كتابي ، حاولت ، كما فعل مارك بلوخ بشجاعة في الأشهر التي أعقبت هزيمة الجيش الفرنسي في عام 1940، جمع مواد حول ما حدث في العالم الغربي خلال فترة الستة أشهر هذه التي تلت ال-7 أكتوبر 2023. مثله، أردت تتبع الأحداث وبناء أرشيف للتفكير في اللحظة. لقد حلل هزيمة عسكرية. أما أنا فحاولت أن أحلل هزيمة أخلاقية. كتابه اليوم ، بحق ، مرجع معترف به بالإجماع. ولكن يجب أن نتذكر أنه تم نشره في عام 1946 ، بعد هزيمة ألمانيا النازية. لو كان قد تم نشره في عام 1940 بعد كتابته مباشرة، تحت حكم فيشي فرنسا ، فمن المحتمل أن يكون استقبال الجمهور له أقل حماسا. لا شك أنه كان سيوجد صحفيون ومثقفون يشوهون سمعة المؤلف ويطعنون في عمله العلمي ويدينون نهجه النقدي. عندما كتبت "فشل غريب" في وقت كانت الحرب في فلسطين في ذروتها من العنف وسطو شرطة الفكر قويا، تأكدت من أنني سأتعرض لهذا الخطر. وعندما يتعلق الأمر بالمخاطرة، لا يمكننا أن ننسى أنه من خلال الانضمام إلى المقاومة، ذهب مارك بلوخ إلى نهاية التزامه ودفع الثمن بحياته. من المؤكد أن إعادة دفنه في البانثيون له ما يبرره، في وقت تنزلق فيه السياسة والمجتمع الفرنسي والأوروبي نحو ما حاربه بكل قوته.
إسلك أحمد إزيد بيه رئيس جامعة سابق