الدكتور محمد ولد عابدين يكتب في تأبين والده : "عابدين ولد سيد الأمين..قصة قامة واستقامة!.."

جمعة, 2025-01-24 22:43

أواخر عام 1970 أناخت بمطار مدينة النعمة طائرة "الفوكير 28" تقل على متنها فتى بركنيا يافعا وسيما أنيقا ، يتدفق حيوية وعلما وفهما ، ويتوقد ذكاء وعطاء ونقاء ، ليجد في استقباله الوالي المساعد للولاية آنذاك الرئيس الأسبق المرحوم المصطفى ولد الولاتي طيب الله ثراه رفقة السلطات الإدارية والعسكرية.

لم يكن ذلك الفتى اليافع اللوذعي الألمعي يومها إلا والدنا المغفور له بإذن الله تعالى عابدين ولد سيد الأمين رفقة زميل له ، اختارتهما الدولة الموريتانية الفتية لإطلاق مشروع تربوي يشكل علامة فارقة في تاريخ المنطقة ، يتمثل في تأسيس أول ثانوية في ولاية الحوض الشرقي. 

وانطلقت فصول الرحلة العلمية التربوية للوالد من ذلك التاريخ ، فباشر مهامه في التدريس والتأطير والتعليم وصناعة الأجيال ، وكانت أول دفعة من طلابه في هذا المشروع التربوي الكبير والصرح العلمي العريق ، تضم مجموعة أصبحت فيما بعد قادة ووزراء وصناع قرار في البلد من بينهم - مع حفظ الألقاب وعلى سبيل المثال لاالحصر- :(الشيخ العافية ولد محمد خونه - لمرابط ولد سيدى محمود - حنن ولد سيدى - حمادى ولد اميمو - محمد عبد الرحمن ولد الداه - سيدأحمد ولد عبد القادر ولد خو...والقائمة تطول )..لتتواصل أفواج وأجيال مخرجات هذه المؤسسة طيلة عقود من الزمن ، جسدت ثمار غرسه وحصاد عطائه ، ومابث في الصدور وأودع في العقول من وعي وعلم وقيم وأدب.

وقد بدأ الوالد رحمه الله مشواره في التحصيل العلمي بحفظ القرآن الكريم في سن مبكرة ، ودرس المتون المحظرية ، وظهرت عليه مخائل النبوغ الفكري والذكاء الفطري ، فالتحق بمعهد أبي تلميت وتخرج منه متفوقا ، ودخل مدرسة تكوين المعلمين فكان الأول من دفعته ، وأكمل تعليمه لاحقا في المدرسة العليا للأستاذة التي تحصل منها على شهادة الكفاءة في التدريس ، وناقش فيها بإشراف المرحوم جمال ولد الحسن وأساتذة تونسيين بحث تخرجه المتمثل في جمع وتحقيق وتحليل اللامية الكبرى للشيخ سيد البكاي ولد الشيخ سيد المختار ، ونقيضتها لأحمد سالم ولد السالك ولد سيدى محمود.

ولم يكن ابن "آفطوط" غريبا في "الحوظ" بل هو ممتد في فضاءات التاريخ ، منغرس في مداءات الجغرافيا..إنه وهو المفتون بالسهول الممرعة في مكطع لحجار والأودية الخضلة في لبراكنة ، قد شغف حبا "بأرض الحوظ" فهام بجبالها وهضابها ووهادها ، وارتبط ارتباطا وثيقا بتراثها وتاريخها وحاضرها ، وتماهى معها ؛ بدوها وحضرها بشرها وشجرها ، فأصبحت له الوطن والسكن ، فهو بين أهله وأبناء عمومته وطلابه وذويه وتلاميذه ومحبيه ، فكان بيته في مدينة النعمة أول بيوتات عشيره تأسيسا ، وأصبح قبلة للجميع ومأوى لهم ؛ طلابا وعمالا وتجارا وزوارا وأصحاب حاجات مختلفة يجدون ضالتهم وبغيتهم ، ويمكثون معززين مكرمين ، وكان رحمه الله كثير السعي في قضاء حوائج الناس ، كسوة وإطعاما وإكراما وإنفاقا وتعليما ، ومداواة للمريض وتصدقا على المسكين وبذلا للمحتاج ، قال لى أحد أطر الحوض الشرقي مرة واصفا علاقة الوالد بالمنطقة : عابدين ولد سيد الأمين هدية الغرب للشرق.

كان رحمه الله عابدا زاهدا صواما قواما ، مصلحا خطيبا ، حصيفا فصيحا ، فارسا آسرا ، راميا شاعرا ، عروبيا قوميا ، محدثا سيروريا ، متبحرا بتراث العربية وأشعارها ، عالما بتاريخ العرب وأيامها وأنسابها ، فاق أقرانه وبز أترابه في السياسة والكياسة والفروسيية والرماية ، انتهج نهج الفتيان وتخلق بأخلاق الفرسان ، وتحلى بقيم الرجال وشيم الكرام ، فكان دمث الأخلاق سمحا ، جم التواضع مخلصا ، عنوانا للمروؤة والشهامة ، رمزا للحلم والاستقامة ، أمينا نصوحا نبيها مصلحا ، إذا حضر مجلسا خطف الأنظار وسحر الألباب وأسر العقول ، وفاض على الناس رحيق علم وأريج فهم وعبق حكم. 

طار ذكره وذاع صيته ووضع الله له القبول فأصبح فاعلا سياسيا ومصلحا اجتماعيا ، انتخب مستشارا في أول مجلس بلدي في مدينة النعمة ، وكان رئيسا لإحدى مناطقها ، وأمينا توجيهيا واتحاديا للحزب على مستوى ولاية الحوض الشرقي ، صال وجال في الحوض غربا وشرقا ، إصلاحا لذات البين وجسرا للهوة بين الفرقاء والخصوم ، ووفق في التمكين لقيم السلم الأهلي ونشر ثقافة التسامح والتصالح بين مختلف المجموعات المحلية في المنطقة. 

قلما دخلت إدارة أو وزارة أومرفقا حكوميا عاما ، إلا لمست ثمار غرسه ، والتقيت حصاد زرعه ، فيقابلنى طلابه بفيض من المشاعر الجياشة المفعمة بالتقدير والتبجيل والمودة والمحبة ، ويبادروننى بعبارتهم الأثيرة : "أهلا بابن أستاذنا الجليل ، من علمنا الأدب والعلم والقيم "..فتغمرنى مشاعر الزهو والخيلاء ، وتتملكنى أحاسيس الفخر والكبرياء ، منتشيا بالولاء والانتماء لهذه القامة العلمية السامقة.

أسس رحمه الله مكتبة ضخمة زاخرة بأمهات الكتب وكنوز التراث ونفائس المخطوطات ، فضلا عن مئات المؤلفات في مختلف المجالات ؛ ضمت التفاسير والصحاح والفقه والسير والتراجم واللغة والآداب والفكر والفلسفة والمعارف الحديثة ، وكانت محجة للجميع ، وعاش رحمه الله نصيرا وظهيرا لطلاب العلم ، وسندا وعضدا للباحثين ، واضعا جهوده العلمية والتعليمية في خدمة العلم والبحث والتحقيق والتأليف.

ذلك مجرد غيض من فيض هذه القامة العلمية ورحلتها المعرفية الضافية ، المضمخة بتراث باذخ من الحلم والعلم والصلاح والكرم ، تلك الرحلة التي اكتملت ليلة الخميس السادس عشر يناير 2025 ، وترجل الفارس بعد وعكة صحية ألمت به ولم تمهله كثيرا ، فأسلم الروح الطاهرة لباريها ، بعد أن لوح بيديه مودعا أفراد عائلته واحدا..واحدا ، رابط الجأش قويا متماسكا ، وظل خلال يوم واحد قضاه بالمستشفى مشتغلا بالذكر والدعاء والصلاة.

حين نام رحمه الله نومته الأخيرة كشفت عن وجهه الغطاء ، وقبلت جبينه الوضاء ، وبدأت ألهج بالدعاء ، مسلما بالقدر والقضاء :رحمك الله يا لسان لغة الضاد..يا فخر الأبناء والأحفاد..وذخر الأجيال والأمجاد!..

والحمد لله أولا وآخرا ، الحمد لله تسليما وتفويضا ، الحمد لله على كل حال ، الحمد لله القائل في محكم كتابه : "وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون "

الحمد لله الذي أنعم وأعطى فشكرنا (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) ، وقدّر وأخذ فصبرنا واحتسبنا (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا) وسبحان من له البقاء والدوام ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتغمد الوالد بواسع رحمته ، وأن يلقيه نضرة وسرورا ، ويملأ قبره خضرا ونورا ، ويجعله روضة من رياض الجنة ، وأن يكتبه في عليين مع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

 "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي" 

إن العين لتدمع ، وإن القلب ليحزن ، وإنا على فراقك يا والدنا وحبيبنا لمحزونون ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا : إنا لله وإنا إليه راجعون.

هذا ما وعدنا الله ورسولهوصدق الله ورسوله. 

وصلى الله وسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه الدكتور محمد ولد عابدين ولد سيد الأمين

نواكشوط يوم الجمعة 24 يناير 2025.