الإصلاح في موريتانيا: إنجازات ملموسة وأسئلة مشروعة

اثنين, 2025-06-09 16:07
محمد لحظانه  المستشار الفني لوزير التجهيز والنقل مكلف بالنقل الجوي

هل تغيّر شيء في موريتانيا؟ نعم، ولكن من دون ضجيج يسرف في التبشير ، بل بخطى هادئة تراكم الأفعال، وتعيد تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس اكثر عدلا و واقعية. فمنذ تولي الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني السلطة، انطلقت ورشة إصلاح لا تعتمد على الشعارات ، بل تنطلق من أولوية بناء دولة قوية و عادلة تستعيد ثقة مواطنيها  وتنهض بمؤسساتها بعيدا عن منطق الاستعراض.

من أبرز ملامح هذه المرحلة التهدئة السياسية، التي لم تأتِ كردّ فعل على أزمة أو احتقان، بل كانت نتاجًا لتحول هادئ بدأ منذ انتخابات 2019، حيث لم تعرف البلاد منذ ذلك الحين والى الان ظروفًا سياسية أو أمنية تفرضها، بل جاءت كبادرة من السلطات العليا، انطلاقًا من رؤية استراتيجية شاملة، بهدف فتح قنوات التواصل مع مختلف الفاعلين، سعيًا إلى ترسيخ مناخ من الثقة والانفتاح، وإشراك جميع القوى الوطنية في تصور مشترك لمستقبل البلد.

و قد تمثلت البوادر  الأولى لهذه التهدئة في اطلاق مبادرة  تنظيم حوار وطني شامل ولكنها مع الاسف لم تُثمر النتائج المرجوة، بسبب تباين مواقف الأطراف حول منهجية الإعداد ومحاور النقاش، وهو ما أدى إلى تعثّرها في المراحل التمهيدية. وقد ساهمت في ذلك بعض التحفظات التي أبدتها أطراف سياسية من خارج الأغلبية، الأمر الذي كشف حجم التحديات التي تعيق التفاهم الوطني، وأبرز الحاجة إلى مقاربة جديدة أكثر نضجًا وواقعية، تنبع من إدراك جماعي لأهمية التوافق في رسم معالم المستقبل.

واليوم، تعيد السلطات العليا  نفس المحاولة  اذ تتجه  نحو تنظيم حوار وطني أكثر شمولًا، يستفيد من دروس التجربة الأولى، ويتأسس على الجدية والانفتاح، دون إقصاء ولا شروط مسبقة. ويُنتظر من جميع الأطراف أن تنخرط فيه بمسؤولية، بعيدًا عن الحسابات الضيقة، إدراكًا لأهمية اللحظة وما تتطلبه من تنازلات متبادلة ورؤية مستقبلية تتجاوز اللحظة السياسية العابرة.

رغم الأزمات العالمية، حافظت موريتانيا على استقرارها، وأطلقت برامج اجتماعية شملت قطاعات حيوية كالصحة والتعليم والإسكان والمياه والكهرباء، إضافة إلى البنية التحتية الطرقية التي تشكّل شرطًا أساسيًا لضمان العدالة الجغرافية في الوصول إلى الخدمات، وربط مختلف مناطق البلاد بدينامية التنمية.

وبرزت إرادة جادة لمكافحة الفساد، من خلال تعزيز آليات الرقابة والمساءلة، في مسعى لترسيخ النزاهة كممارسة مؤسسية لا كشعار موسمي. لكن من المهم الاعتراف بأن نتائج هذه الجهود لا تزال دون  مستوى الطموح العام ، سواء على مستوى حجم الملفات المعالجة أو أثرها الرادع. فثقافة الإفلات من العقاب لم تُكسر بعد بما يكفي، والممارسات القديمة لا تزال تجد منافذها حين تغيب المحاسبة الصارمة أو يُستثنى المتنفذون من المساءلة. ومن هنا، فإن نجاعة الإصلاح في هذا المجال تتطلب خطوات أجرأ، تبدأ بتجفيف منابع التأثير الشخصي على القرار العمومي، وتكريس استقلال الإدارة، وضمان ألا يُعامل أي ملف خارج منطق القانون.

أما الرقمنة، فقد بدأت تتحول إلى أداة إصلاحية حقيقية، تهدف إلى تقريب الإدارة من المواطن، وتبسيط المعاملات، وتعزيز الشفافية. غير أن نجاح هذا التحول يتوقف على تلاقي ثلاثة شروط: البنية التحتية، والكفاءة البشرية، والطلب المجتمعي الواعي على الخدمات.

في موازاة ذلك، أطلقت الدولة أكبر برنامج استثماري بتمويل داخلي، تجاوز 270 مليار أوقية، في مؤشر على تحوّل نوعي في أولويات الإنفاق العمومي. غير أن حجم الاستثمار لا يكفي ما لم ترافقه إصلاحات تضمن الفعالية: من ترشيد الإدارة وتحييد النفوذ، إلى تحسين آليات التنفيذ والتواصل مع المواطن.

ومع ذلك، بقي أثر هذه الجهود محدودًا في الوعي العام، بسبب ضعف التعبئة الحزبية والإعلامية. كما أن بعض مظاهر التذمر المعيشي، رغم مشروعيتها، لا تعني غياب التوجه الإصلاحي، بل تؤكد الحاجة إلى تعميق السياسات الاجتماعية وتوجيهها بشكل أكثر فاعلية للفئات الهشة، لا سيما في المناطق التي تعاني من نقص البنية الأساسية والولوج إلى الخدمات.

وهنا تبرز حقيقة أساسية: لا إصلاح بلا مواكبة مجتمعية. فنجاح أي إصلاح مشروط بوعي المواطن، ومشاركته، ويقظته تجاه من يحاول تقويض الجهود الإصلاحية باسم النقد أو الانتماء، مستغلًا المساحات التي تُترك فارغة.

وقد عبّر الرئيس، في مستهل مأموريته الثانية، عن عدم رضاه التام عمّا تحقق ليس تقليلا من حجم الانجازات، و لكن في إشارة إلى وعيه بحجم التحديات وطبيعة المسار. ويُعزى بعض القصور إلى بطء بعض الإدارات، وضعف المتابعة، وفجوة التفاعل مع تطلعات المواطنين، كما ان بعض المشاريع، ولاسيما في البنى التحتية الطرقية ، كثيرا ما تقرر بشكل مفاجئء دون أن تكون الشروط الفنية والمؤسسية مهيأة لتنفيذها ، وهو ما يؤدي الى تعثرها أو تأخرها ، و بالتالي يقوض الأثر المتوقع منها.

ان مراجعة الأداء وربط المسؤولية بالمحاسبة، الى جانب تعزيز التخطيط المسبق القائم على المعطيات لا الانطباعات ،تظل شروطا لا غنى عنها لانجاح أي اصلاح.

الإصلاح لا يقوم على القرارات فقط، بل يحتاج إلى إرادة ومتابعة وأدوات تنفيذية صلبة. وهو ليس مسؤولية الدولة وحدها، بل مشروع يتقاسمه الجميع. فنجاح البرامج، مهما بلغت جودتها، مرهون بالتفاعل الشعبي معها، والانخراط الواعي في مواكبتها وتقييمها.

 

هكذا نفهم القيادة: ممارسة لا وعود، وإصلاح لا استئثار، وشراكة لا انتظار