حين تتحوّل الشرائحية إلى حصانة من النقد: الدولة تواجه… والبعض يختبئ

أربعاء, 2025-06-11 18:17
محمد لحظانه المستشار الفني لوزير التجهيز والنقل مكلف بالنقل الجوي

في عالم تزداد فيه تعقيدات الخطاب السياسي والاجتماعي، تبرز ظاهرة مقلقة تكاد تُفسد معارك الإصلاح العادلة وتشوّه مطالب التغيير الحقيقية، وهي ظاهرة الاختباء وراء العنصرية والشرائحية. حين يتحول الحديث عن المظلومية إلى ذريعة لابتزاز الدولة أو للتغطية على الفشل، وحين يُرفع شعار الانتماء الشرائحي أو العرقي في وجه أي نقد، يصبح من الضروري التوقف لا لمعاداة تلك المطالب، بل لتمييز الصادق منها عن المزيف، والحقوقي منها عن الانتهازي.

لم تعد بعض الجهات تتردد في تسخير خطاب الشرائحية كدرع واقٍ من النقد والمحاسبة، حتى بات كل تقويم عقلاني يُقابل باتهامات جاهزة: “عنصري!”، “معادٍ للشرائح!”، “منحازللبيظان!” أو “ضد لحراطين!”… هكذا تُغلق أبواب الحوار، ويُخنقالنقاش العمومي، ويُدفع الناس إلى معارك وهمية بدل التركيزعلى معارك البناء والتغيير الحقيقي. نحن لا ننكر – بل نؤكد –وجود تهميش تاريخي وظلم واقعي يجب الاعتراف به والعمل علىرفعه، لكننا نرفض بشدة أن يُستغل هذا الواقع لتصفية الحساباتالسياسية أو لتبرير الإخفاقات الشخصية، أو لفرض وصاية علىالمجتمع باسم المظلومية.

ولا يفوتنا التذكير بأن تاريخ كثير من دعاة الشرائحية والعنصرية في بلادنا حافل بمواقف وأفعال غير مشرفة، إذ لم يكن خطابهم مجرد دفاع عن الحقوق، بل غالبًا ما ارتبط بمحاولات زعزعة السلم الأهلي، واستغلال الانقسامات لتحقيق مكاسب سياسية شخصية أو حزبية. هذه الممارسات ألحقت ضررًا بالغًا بوحدة المجتمع، وسعت الى اعاقت بناء دولة المواطنة التي نحلم بها جميعًا.

في السنوات الأخيرة، شهدنا تصاعدًا لافتًا في استخدام مفاهيم “الشرائحية” و”العنصرية” في الخطاب العام بموريتانيا، لاكوسيلة لكشف التمييز أو النضال ضده، بل كأداة لتوجيهالاتهامات، وتعطيل النقد، وإسكات الأصوات المختلفة. في كل مرةيُطرح فيها سؤال حول الأداء الحكومي، أو يُنتقد فيها مسؤولمحسوب على فئة معينة، يخرج من يلوّح ببطاقة “الشرائحية” وكأنالمساءلة نفسها باتت محرّمة إن طالت شخصًا من شريحة بعينها. بل إن بعض السياسيين، حين يفشلون في إقناع الناخبين أوتقديم مشاريع حقيقية، يسارعون إلى إيقاظ الخطاب الهوياتيالممزّق، ليُغطّوا به عجزهم.

هذا الاستخدام الانتهازي للشرائحية لا يخدم أحدًا – لا الشرائح المهمشة ولا الدولة، بل يقوّض أسس الثقة الوطنية، ويعيد إنتاج الحواجز النفسية بين مكونات المجتمع. بدل أن يُبنى خطاب جامع على أساس المواطنة، نرى اليوم من يسعى إلى تعميم الشعور بالضحية، بل إلى تسويق تصور قاتم مفاده أن “الدولة ضدنا”، أوأن “كل نجاح لنا يُنظر إليه بعين الريبة”. هذه النظرة تهدم فكرةالدولة الجامعة، وتغذي شعورًا بالتنافر، وقد تقود، إن تُركت دونمقاومة فكرية، إلى استقطاب عرقي وطبقي خطير يهدد سلمالبلاد وتماسكها الاجتماعي.

وإذا كان من المؤسف أن تُوظّف الشرائحية لعرقلة الحوار وتعطيل النقد، فإن الأخطر من ذلك أن تتحول إلى مبرر للفوضى، أو ذريعة للاعتداء على السلطات الأمنية، أو مظلة يحتمي بها البعض تحت غطاء الحصانة البرلمانية. فالدفاع عن شريحة أو مكون لا يُبرّر الخروج عن القانون، ولا يبيح تعطيل عمل المؤسسات، ولا يُعطي أحدًا حق استخدام موقعه السياسي أو النيابي لإثارة الشغب أو التحريض على الانقسام. الطريق إلى العدالة لا يمر عبر الفوضى، والاحتماء بالحصانة لخرق النظام العام سلوك مرفوض، لأنه يُسيء إلى فكرة التمثيل الشعبي نفسها، ويحوّلها من وسيلة للمساءلة إلى ذريعة للتمرد على النظام.

لا يمكن الحديث عن خطاب الشرائحية دون التوقف عند ما يُثار من حين لآخر حول الممارسات العبودية التي عرفها البلد في مراحل من تاريخه. والحقيقة التي يجب التأكيد عليها، دون مواربة، هي أن العبودية لم تعد قائمة في موريتانيا كواقع معاش أو ممارسة ممنهجة، بل أصبحت من مخلفات الماضي، اختفت من حياة الناس، وتم تجريمها قانونيًا وتجفيف منابعها مؤسساتيًا. لقد صار التوافق وطنيًا على أنها صفحة سوداء من تاريخ هذا البلد، لا يثني عليها أحد، ولا يسعى أي طرف لإحيائها أو التستر عليها. ورغم ذلك، ما تزال تُستحضر أحيانًا من قِبل البعض، لا للتذكير بخطورتها، بل لاستثمارها كأداة ضغط واستدرار للشرعية أو التماهي مع دور الضحية.

مواجهة هذا الخطاب لا تعني إنكار الظلم أو رفض الحديث عن التهميش، بل تعني رفض استغلال تلك القضايا النبيلة لأهداف أنانية أو سياسية. لا بد من رفع سقف الوعي الجماعي حتى لا يقع المجتمع في فخ “المظلومية المزيفة”، ولا بد من إعادة بناءالنقاش الوطني على قواعد: الإنصاف دون انحياز، المساءلة دونتمييز، والتضامن دون استغلال. الرد الحقيقي على العنصريةوالشرائحية لا يكون بتغذيتها في الاتجاه المعاكس، بل بترسيخثقافة العدالة والمساواة والشفافية، والربط بين المسؤولية والجدارة،لا بين الشرعية والانتماء.

غير أن مواجهة هذه الظواهر لم تكن يومًا غائبة عن أجندة الدولة، بل إن السلطات العليا، ممثلة في رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، عبّرت في أكثر من مناسبة عن رفضها القاطع لكل أشكال التمييز والتفريق بين المواطنين على أساس اللون أو الشريحة أو الانتماء القبلي. لقد أكد الرئيس مرارًا أن الوحدة الوطنية خط أحمر، وأن العدالة والمساواة ليست مجرد شعارات بل التزام سياسي وأخلاقي، تُترجم عبر إصلاحات ملموسة في التعليم، والتشغيل، والتوزيع العادل للثروات. كما أن الإرادة السياسية لمحاربة شرور العنصرية والشرائحية، تتجلى يومًا بعد يوم في السياسات العمومية والبرامج الاجتماعية التي تستهدف الفئات الهشة وتعيد الاعتبار للمواطن البسيط.

ولعل من أبرز تجليات هذه الإرادة الإصلاحية، إطلاق مشروع المدرسة الجمهورية، باعتبارها حجر الزاوية في بناء وحدة وطنية صلبة على أساس المساواة والعدالة. فهذه المدرسة لا تميز بين أبناء الوطن، ولا تُفرّق بينهم بحسب أصولهم أو طبقاتهم، بل تجمعهم تحت سقف واحد، وتمنحهم أدوات المعرفة والانتماء المشترك. هي استثمار في المستقبل، وفي أجيالٍ يُراد لها أن تكبر وهي تدرك أن ما يوحدها أكثر مما يفرقها، وأن ما تناله بالاجتهاد لا بالانتماء. إن المدرسة الجمهورية ليست مجرد إصلاح تربويفحسب  كما يرى البعض، بل مشروع حضاري، يُراهن عليه لتقويض بنى التمييز من الجذور.

وفي هذا السياق، يبقى من الضروري أن تنخرط القوى السياسية الوطنية، بكل أطيافها، في جهد جماعي لتجفيف منابع الشرائحيةوالعنصرية، ليس فقط بالخطاب، بل بالممارسة والمثال. كما أن وسائل الإعلام – الرسمية منها والخصوصية – مدعوة للعب دورها التنويري في التوعية بمخاطر هذه الظواهر على السلم الاجتماعي والمشروع الوطني الجامع. وإذا قصّرت في ذلك أو اختارت الإثارة والتأجيج بدل البناء والتنوير، فإن على المجتمع أن يمارس رقابته الأخلاقية عليها، وألّا يتابعها أو يمنحها الشرعية الجماهيرية، فالإعراض عنها حينئذ يصبح موقفًا وطنيًا مسؤولًا، ومعقولًا مجتمعيًا في وجه ما يُهدد وحدتنا الوطنية من تفكك وانقسام.

وفي هذه اللحظة الدقيقة من تاريخ موريتانيا، نحن في حاجة إلى خطاب وطني جديد يرفض الابتزاز باسم الهوية، ويتجاوز منطق “نحن وهم”، ويعيد الاعتبار للمبادئ الكبرى: دولة القانون،المواطنة المتساوية، والعدالة الاجتماعية. فمن يختبئ وراءالشرائحية، لا يدافع عن شريحته، بل يؤخر نضالها الحقيقي،ومن يلوّح بالعنصرية في وجه النقد، لا يحارب الظلم، بل يحتميبه. ومن هذا المنطلق، فإن الانخراط في مسار الإصلاح الذيتقوده السلطات العليا، وعلى رأسها رئيس الجمهورية، يُعدّ واجبًاوطنيًا، لأنه يجسد إرادة صادقة لطي صفحات الظلم والإقصاء،وبناء وطنٍ لا يحتاج فيه المواطن أن يرفع بطاقة انتمائه لكي يُنصف.

محمد لحظانه المستشار الفني لوزير التجهيز والنقل مكلف بالنقل الجوي