
منذ سنة 2008، وعلى إثر توجيه رئاسي واضح بضرورة إدراج تخصص “نجارة الألمنيوم” ضمن برامج التكوين المهني في موريتانيا، استجابت إحدى مؤسسات التكوين المهني لهذا التوجه الطموح، واستدعت أساتذة متخصصين لتأسيس هذا التخصص من العدم، وبُنيت عليه آمال وطنية في خلق فرص عمل وتحقيق نقلة نوعية في تكوين اليد العاملة. لكن، وبعد أكثر من 15 سنة من العمل المتواصل والمخلص، ما يزال هؤلاء الأساتذة ينتظرون تثبيتهم الوظيفي في مشهد سريالي يعكس أزمة أعمق من مجرد تأخر إداري.
الخلل لم يكن تقنيًا، ولا مرتبطًا بضعف أداء الأساتذة، بل هو خلل في الضمير الإداري والوظيفي للدولة. هؤلاء الأساتذة اشتغلوا منذ اللحظة الأولى بعقود هشّة، على أمل تثبيتهم لاحقًا، بوعد رسمي من المؤسسة التي استدعتهم، اعتمادًا على توجيه أعلى سلطة في البلاد. لكن ما حدث لاحقًا كان سلسلة من الخيانات الإدارية، بدأت بتجاهل تلك الوعود، ومرت بتغيّر الإدارات والوزارات دون أي أثر يُذكر، وانتهت إلى صورة سريالية: أساتذة يعملون بأقل من خمسة آلاف أوقية جديدة شهريًا، دون أي اعتبار لمسؤولياتهم، أو لأثرهم المباشر في السوق.
أربعة مديرين مرّوا بالمؤسسة، وثمانية وزراء تداولوا على قطاع التكوين المهني، لكن المدهش أن العائق الأساسي لم يكن فيهم، بل في مجلس إدارة المؤسسة، الذي ظل يجتمع سنويًا دون اتخاذ قرار واحد لصالح هؤلاء الأساتذة.
إن هذه المجالس التي يُفترض أن تكون عقل المؤسسة، تحوّلت إلى أدوات لصيانة الركود، وتغليف التقاعس بقرارات شكلية وجوفاء لا تمسّ جوهر الإشكاليات.
الأدهى أن تقاعد موظفين من المؤسسة، والذي كان من المفترض أن يفتح المجال أمام تثبيت الكوادر الجديدة، لم يتم استغلاله، وكأن المجلس مصمم على الإبقاء على الوضع القائم، دون أدنى حس بالمسؤولية تجاه مؤسسة تُكوّن شبابًا موريتانيًا في تخصص مطلوب في السوق، وأساتذة يمثلون البنية التحتية البشرية لهذا المشروع.
ما يُحسب للمدير الحالي سيد ولد محمد لغظف، أنه لم يتعامل مع الملف بالبرود المعتاد، بل خاض فيه بجدية، وقاد جهودًا حقيقية لإعادة الاعتبار إلى الأساتذة. وقد نجح، أخيرًا، في انتزاع توصية من مجلس الإدارة بتثبيتهم. لكن، وكالعادة في الإدارة الموريتانية، أُلقي بالملف في دهاليز وزارة المالية، حيث يعلوه الغبار بانتظار من يملك الجرأة السياسية والبوصلة الأخلاقية لإخراجه إلى النور.
وزارة المالية هنا ليست جهاز صرف فقط، بل بوابة قرار. وإبقاء هذا الملف عالقًا يعني، بكل وضوح، شلّ مسار مؤسسة، وتكريس خيبة أمل بين أساتذة التكوين المهني، وإرسال رسالة سيئة لكل من يفكر في بذل الجهد في دولة لا ترد الجميل.
وفي المقابل، فإن الإفراج عن الملف، وتنفيذ توصية التثبيت، سيُعدّ تجسيدًا عمليًا لتوجيهات رئيس الجمهورية بإصلاح قطاع التكوين المهني، وضمان حقوق العاملين فيه.
الأساتذة المعنيون، رغم الظلم، ما زالوا يواصلون عملهم بحماس أخلاقي محض، دون أي دعم مؤسسي حقيقي. ينتظرون، كما ينتظر كثيرون في هذا البلد، عدالةً قد تتأخر، وقد لا تأتي.
لكن هذه القضية ليست مجرد قضية رواتب أو تثبيت، بل قضية تتعلق بمفهوم الدولة: هل تكافئ من يؤسسون لبنائها، أم تتفنن في إذلالهم؟ هل لدينا إدارة تستجيب للإنصاف، أم بيروقراطية تعيد إنتاج الظلم جيلاً بعد جيل؟
إن تاريخ هذه القضية هو مرآة مصغّرة لحالة أوسع: العلاقة الممزقة بين الكفاءة والاعتراف، بين الواجب والمؤسسة، بين النية الرئاسية والتنفيذ الإداري. ولعل الحل لا يبدأ فقط من وزارة المالية، بل من مساءلة كاملة لمنظومة لا تزال تفرّغ التكوين المهني من روحه، وتخذل من يصنعون الفرق على الأرض.
فلتكن قضية نجارة الألمنيوم هي خشبة اختبار حقيقية لجدية الدولة في الإصلاح، لا مجرد لافتة جديدة تُرفع في موسم التصريحات.
الاستاذ : عبد الله ولد لبات