كم ديكتاتورا عرفت معرفة شخصية فى حياتك أو عرفت عنه؟ لقد سمحت لى مهنتى، خصوصا فى زمن مضى، أن اعرف العديد من الحكام المفردين فى بعض دول المشرق، وصولا إلى الربع الخالى، وبعض المغرب حتى حدود شنقيط التى نعرفها الآن باسم موريتانيا.
عرفت بعضهم وهم عسكريون أصلا سرعان ما تخلو عن الرتب ذات النجوم والسيوف المتقاطعة، وعرفت مدنيين أعطوا أنفسهم أعلى رتبة عرفتها العسكرية فى العالم ليكون واحدهم «القائد الأعلى» من أى قائد فى التاريخ، وعرفت «مدنيين» يتحلون بالنسب الشريف لكنهم رأوا ضرورة تعزيزه بالرتبة العسكرية الأعلى، كما عرفت شيوخ قبائل صيروا أنفسهم ملوكا وأمراء بسيوف القبلية وآبار النفط التى تستدعى من يحميها فيحميهم.
عرفت بينهم من كان بسيطا، متواضعا، يسأل كثيرا، ويعترف أحيانا بأنه لا يعرف ما يكفى، قبل أن يأخذ بالامتلاء غرورا فيفترض أنه لم يعد بحاجة إلى السؤال لأنه «ختم العلم» وبات مصدر الأجوبة جميعا، تستوى فى ذلك المسائل الدينية والزمنية، وإشكالات الثقافة ومشكلات السلطة، وهو مبدع فى اختلافه مع السائد من أعراف وتقاليد.
وعرفت من تلبث زمنا فى المقاعد الخلفية محتفظا لنفسه بحق القرار، وإن حمل توقيع غيره، حتى إذا ما أضجرته هذه الثنائية فرض على «الأول» أن يتوارى فى عتمة النسيان ليعتلى ــ مباشرة ــ منصة القرار شاهرا سيفه فى وجوه من قد تحدثهم أنفسهم بمشاركته أو بتحديه.
عرفت كما غيرى من قفز إلى السلطة مستفيدا من «خلاف الأقوياء» الذين تآمر بعضهم على البعض الآخر فانفتحت الطريق أمام من استضعفوه فاختاروه حَكَما حتى إذا ما تم التسليم له بالدور انقلب إلى الحاكم الأوحد بعد النجاح فى تصفيتهم واحدا واحدا حتى صار الأوحد.
عرفت من اعتبر نفسه مخلدا يميت ولا يموت، وجلست إليه وهو يهرف ويعيد رواية الحادثة الواحدة مرارا، حتى إذا ما سألت حول أمر يتصل بالسلطة ومصدر القرار استعاد ذاكرته والتمعت عيناه ببريق الريبة وطفق يسألك عن دلالات سؤالك ومبرراته، وهل هى نتيجة معلومات أو مجرد تقدير شخصى..
عرفت أيضا من كان يخجلك بتواضعه ويحرجك باستفساراته عما تعتبره من البديهيات حتى إذا ما تمكن صار يملك الأجوبة عن شئون الدين والدنيا وما بينهما، عن الفلسفة والطب وعلم الفلك، وتدخل فى التاريخ فابتدع له بداية مختلفة، واختار للشهور أسماء غير التى يعرفها الناس.
•••
ولقد عرف غيرى، من أهل السياسة والصحافة، أكثر مما عرفت وإن كانوا فضلوا استثمار معرفتهم فى الصفقات أو فى المذكرات، أو كتموها حتى لا يفاجأوا ذات ليل بمن يكتم أنفاسهم ثم ينعيهم كشهداء.
وكان على أن أرجئ استنتاجاتى وتقديرى بأننا، نحن العرب، نعيش «خارج الدولة» التى لم نعرفها حقا... ثم أن اخفف أحكامى على «النظام» فى لبنان الذى يجعله بلا دولة، بينما فى كل بلد عربى إلى جانبه أو بعيدا عنه «دولة الرجل الواحد» التى تلغى «الدولة» كما قرأنا عنها فى الكتب أو كما شاهدنا فى بعض العالم الذى أتيح لنا أن نعرفه.
•••
إننا نعيش فى مجتمعات مشروخة بالانقسامات متعددة المصدر (طائفية، مذهبية، عشائرية، الكيان السياسى المفتعل والمتصادم حكما مع الوقائع الجغرافية والسياسية والسكانية).
وفى المشرق العربى، على وجه الخصوص، أقيمت الكيانات السياسية بقرارات أصدرها المستعمرون الأوروبيون حين ورثوا السلطنة العثمانية... وقد اعتمدوا فى تقسيمها على موروثات القرون الماضية فى وجهة مغايرة لمشروع «السلطنة» التى «وحدت» الرعايا جميعا تحت كنفها محافظة على أصولهم العنصرية أو انتماءاتهم الدينية والطائفية. وقد وجد الاستعمار الغربى فى هذه الانتماءات ما يمكن أن يحل محل «القومية» و«الوطنية».. وهكذا أعاد تقسيم المقسم على قواعد طائفية أو مذهبية، فاقتطع من هذا الكيان ليضيف إلى الكيان الآخر، قسرا وبحسب مصالحه، محافظا فقط على «فلسطين» لتكون، جائزة الصهيونية العالمية، كيانا طائفيا ــ عنصريا معززا بقوة عسكرية متفوقة تمنع أية محاولة لتوحيد الكيانات الممزقة سلفا بالطائفية والذهبية والمصالح النفطية.
وهكذا كانت دول المشرق جميعا فى حالة اهتزاز دائم، لعل أفصح تعبير عنها توالى الانقلابات العسكرية على أنظمتها الضعيفة بالولادة، وبالمقابل: الاستعداد لقبول الدكتاتور، بوصفه الموحد، محقق الاستقرار (ولو إلى حين)، ولا بأس إن هو اختصر بشخصه «الدولة» (التى لم تعرفها رعيتها) مستعينا بمجموعة من الأجهزة الأمنية لا شىء يمنع من أن تموه بشعارات «الحزب القائد».
بالتالى فلا غرابة فى أن تتهاوى أمام عيوننا الدول التى كانت ترتكز إلى رئيس قائد يختصر بشخصه الدولة، تعاونه مجموعة من الأجهزة الأمنية.
..ولا غرابة أن يبتعد المجتمع السجين تدريجيا عن «الدولة» التى تصير مجرد سلطة مركزية دكتاتورية تخيف «الشعب» فتخضعه بالقهر ثم بالخوف منها على «دولته» باعتبارها ــ بالأمر ــ رمز وحدة مجتمعه وحامية هذه الوحدة والمرجعية الشرعية لجميع رعاياها الذين لم يكونوا فى أى يوم «مواطنين».
•••
القائد الفرد لا يبنى دولة: هو ليس بحاجة إليها، بل هى تناقض وجوده.
متى كان الرئيس هو الدستور، هو من يأمر بوضعه، ولدولته، وهو من ينقش نصوصه بما يتلاءم مع حالته وطموحاته، وهو من يشرف على سن القانون ليكون ــ وحده ــ القاضى والمدعى العام ومحامى الدفاع وهو هو مصدر الاتهام والحكم، فكيف يكون الاعتراض وأمام من؟!
..ومتى كان الرئيس هو الحكومة جميعا، بالداخلية والخارجية، بالجيش والأمن، بالصحة والتربية والقضاء، انتهت الدولة قصرا للحكم، والحكومة إلى مجموعة من الإداريين. فى مكتب رئيس كل الإدارات والمؤسسات والهيئات.
المشكلة المعقدة تبرز متى مات الرئيس... وهذا خروج على القاعدة، فإن «الدولة» تكون أمام خطر الانهيار بالكامل. دولته ترحل معه، ويكون على الشعب أن ينتظر سلسلة معجزات تحفظ «الدولة» ريثما يمن عليه القدر برئيس فى مستوى المهمة الجليلة: إعادة بناء الدولة فى غياب بانيها الراحل، وعلى أسس يبتدعها القادم إلى المسئولية لتكون «دولته» النقيض بالمطلق لدولة من كان يفترض نفسه خالدا لا يموت.
•••
على هذا فقد صار مألوفا أن «ترحل» الدولة مع رحيل رئيسها القائد.
رحلت دولة جمال عبدالناصر معه وجاءت مع أنور السادات الدولة ــ النقيض، فى السياسة كما فى الاقتصاد، فى مواجهة العدو الإسرائيلى، كما فى التعامل مع القضايا الاجتماعية (الإصلاح الزراعى وحقوق الفلاحين، المصانع وحقوق العمال فى العمل النقابى، النهج الاستقلالى ممثلا بعدم الانحياز، وعلاقات متكافئة مع الدول الكبرى وفقا للمصالح الوطنية، قضية فلسطين وواجب حمايتها الخ).. وهذا فى مصر، اعرق دولة فى التاريخ..
وسقطت دولة العراق بقيادة صدام حسين، نتيجة مغامراته العسكرية البائسة (الهجوم على إيران بعد تفجر الثورة الخمينية فيها، ثم احتلال الكويت، مما برر للعديد من الأنظمة العربية التى تعيش تحت الرعاية الأمريكية و«شرهات» حكام الدول النفطية ملوكا وأمراء وشيوخا من ذوى الأنساب، أن تشارك فى الهجوم على العراق وتدمير دولته، بحجة تخليصه من الطاغية. ذهبت الدولة مع طاغيتها.
أما النموذج الليبى فقد تهاوى نتيجة انفجار شعبى لم يستطع «الملازم» معمر القذافى الذى حكم لأكثر من أربعين سنة أن يستوعب أسبابه، خصوصا وأنه كان قد ألغى «الدولة» التى لم يؤمن بها يوما (القائد يكفى!)
وفى اليمن، وبعد ثلاثين سنة أو يزيد من حكم على عبدالله صالح، الذى صار ضابطا بالمصادفة القدرية، تشلعت البلاد بحسب قبائلها، لأنه حكم بالقبيلة التى صارت جيشه. وهكذا عاد الصراع بين القبائل إلى طبيعته الأولى.. وصار مستحيلا خلع القبلية واستعادة مواقع السلطة إلى حكم مركزى فى مجتمع لم يتسن له أن يعرف الدولة إلا فى بعض شكلياتها.
أما ما تبقى من الدول فيتوقف حضورها على النفط، لأن النفط هو علة وجودها، ومن هم بحاجة إلى النفط أنشأوا هذه الدول، ورعوها وسيواصلون رعايتها حتى تنضب الآبار، وتعود المجتمعات إلى طبيعتها الأصلية... وذلك زمن آخر.
تبقى مصر نموذجا للدولة، بشرط أن يحمى نظامها هذه «الدولة» التى يمكنها أن تكون نقطة ارتكاز لهذا العالم الشاسع المسمى «عربيا». وفى المغرب دولة راسخة بعرشها، تجاورها دولة تعيش بذكريات ثورتها..
أما ما تبقى فكيانات استولدت قيصريا لأغراض استعمارية أو تعيش قدريا بقوة باطنها.
الدولة... هي المستقبل العربي الذي لن يتحقق إلا بها.
الشروق انيوز