الحوار السياسي.. درب موريتانيا نحو الوحدة والاستقرار

أحد, 2025-09-07 02:27
ليلى أحمد الشيخ محمد المامي   مستشارة رئيس حزب الإنصاف 

منذ فجر الاستقلال وحتى اليوم، أثبتت التجربة الموريتانية أن الحوار الوطني ليس ترفًا سياسيًا ولا خيارًا ثانويًا، بل هو الركيزة الصلبة التي تقوم عليها الدولة الحديثة. فكلما عصفت بالبلاد تحديات أو تعالت أصوات الخلاف، كان الحوار هو البوصلة التي تعيد تصحيح المسار، والجسر الذي عبرت من خلاله موريتانيا نحو الوفاق الوطني والاستقرار السياسي.فالبلاد قد مرت بمحطات حرجة، كادت أن تعصف بوحدتها، لكنها كانت في كل مرة تجد في الحوار الوطني جسرًا تعبر به نحو الاستقرار والأمل الجديد.ومن هذه المراحل:مرحلة أزمة ما بعد الاستقلال (1960 – 1978)

بعد الاستقلال، واجهت موريتانيا تحديات بناء الدولة وسط تنوع عرقي وثقافي وسياسي شديد التعقيد. ومع تصاعد التوترات بين المكونات الاجتماعية، كان الخطر الأكبر هو الانقسام الداخلي. لكن الحوار بين النخب السياسية والقيادات الاجتماعية آنذاك ساعد على رسم ملامح هوية وطنية جامعة، وحمى البلاد من الانزلاق نحو صراعات أهلية مبكرة.

مرحلة التوترات العرقية (1989 – 1991)

شهدت هذه الفترة أحداثًا دامية بين مكونات المجتمع الموريتاني كادت أن تُحدث شرخًا دائمًا في النسيج الاجتماعي. إلا أن الحوارات الهادئة بين زعماء المكونات العرقية، بدعم من الدولة والوجهاء، أسهمت في تهدئة النفوس وإعادة بناء جسور الثقة. لقد أثبتت موريتانيا حينها أن الحوار أقوى من الفتنة.

مرحلة الانتقال الديمقراطي (2005 – 2009)

بعد عقود من الأنظمة العسكرية، جاءت هذه المرحلة حافلة بالتقلبات السياسية والانقلابات المتتالية. وفي مواجهة الانسداد السياسي، كان الحوار الوطني هو المنقذ مجددًا.من خلال اتفاق داكار 2009، الذي جمع مختلف الفرقاء السياسيين، تمكنت موريتانيا من تجاوز أزمة خانقة، وأُجريت انتخابات توافقية مثّلت ولادة جديدة للديمقراطية الموريتانية.

لقد علّمنا التاريخ أن موريتانيا كلما أرادت النهوض، كان الحوار الوطني هو اليد الحانية التي تعيدها إلى بر الأمان. من بناء الدولة بعد الاستقلال، إلى رأب الصدع العرقي، ثم تثبيت دعائم الديمقراطية،… كلها شواهد تقول بصوت واحد:

"إن موريتانيا لا تنجو إلا بالحوار، كما أنها لاتنهض إلا به."

ولا يقتصر درس الحوار على تجربتنا وحدها؛ فالنظر إلى تجارب الدول المجاورة يمنحنا دليلًا حيًا على قوته. ففي تونس، مثلًا، كان الحوار الوطني الشامل سنة 2013 بمثابة المنقذ من أزمة سياسية حادة كادت تعصف بالدولة، إذ اجتمعت مختلف الأطياف السياسية حول طاولة واحدة، وكان ثمرة ذلك توافق تاريخي أرسى دعائم الاستقرار الديمقراطي وفتح الباب أمام انتقال سياسي سلس.أما في تشاد، فقد أثبت الحوار الوطني الذي عُقد عام 2022 أهميته في رأب الصدع الداخلي بعد فترة من الاضطرابات، حيث جمع المعارضة والسلطة والمجتمع المدني في خطوة جريئة نحو إعادة بناء الثقة وتأسيس مرحلة سياسية جديدة قائمة على المشاركة بدل الإقصاء.إن هذه التجارب الإقليمية تؤكد أن الحوار السياسي هو لغة العصر وأداة الشعوب لصناعة مستقبلها. فبدونه، تتعطل مسيرة التنمية، وتتسع فجوات الخلاف، بينما يفتح التمسك به أبواب الاستقرار والازدهار، ويضع الدول على طريق التوافق الوطني.

واليوم في وطننا العزيز، نجد أنفسنا أمام مرحلة رغم أنها تختلف عن سابقاتها من حيث الحالة إلا أنها لاتختلف في الأهمية وإن كانت المراحل السابقة مفصلية في الخروج من أزمة أجحفت بالبلاد فإن هذه المرحلة مفصلية في النهوض بالبلاد نحو التقدم و الازدهار ومستقبل أكثر إشراقا ولذالك فإننا اليوم أمام مرحلة مفصلية مع التشاور الوطني في عهد فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني (2019 – حتى اليوم).إن هذا الحوار ليس وليد أزمة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية كما قد يظن البعض، بل هو التزام سياسي وأخلاقي من فخامته تجاه الوطن والمواطنين، وخطوة استباقية لترسيخ الوحدة الوطنية وتعزيز دعائم التنمية الشاملة.

فمنذ توليه الحكم في أغسطس 2019، أدرك الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أن الحوار الشامل هو السبيل الأنجع لبناء دولة متماسكة، فدعا إلى تشاور وطني جامع جمع مختلف الطيف السياسي والاجتماعي.وقد جائت هذه الدعوة في لحظة فارقة من تاريخ البلاد، حيث جاءت دعوة فخامته إلى حوار وطني شامل كمن يزرع بذرةً في أرضٍ عطشى، فتنبت آمالًا خضراء وتورق معها أغصان الوحدة. لم يكن الحوار مجرّد آلية سياسية، بل كان جسرًا حضاريًا يربط بين مختلف الأطياف والتيارات، ويؤسس لصفحة جديدة من الوفاق الوطني. وكانت النتيجة توافقات وطنية حول ملفات مهمة مثل التعليم، العدالة، الوحدة الوطنية، ومحاربة الفقر، مما عزز الثقة بين الدولة والمجتمع وفتح الطريق أمام تنمية شاملة ومستقبل أكثر استقرارًا.حيث تتعاظم رهانات التنمية الشاملة وتعزيز الديمقراطية وترسيخ دولة المؤسسات. 

ثم إن المشاركة في هذا الحوار ليست خيارًا عاديًا، بل هي واجب وطني يعكس حرص كل مواطن على حب الوطن وحرصه على المساهمة الفعلية في بناء مستقبله وإصلاح واقعه.فالحوار هنا ليس وسيلة للخروج من مأزق كسابقاته، بل هو رؤية حكيمة وخارطة طريق نحو موريتانيا أقوى، موحدة، ومزدهرة.

وفي الختام، يبقى الحوار الوطني هو الهواء الذي تتنفسه موريتانيا، والركيزة التي تقوم عليها وحدتنا واستقرارنا وتنميتنا. فلنتمسك جميعًا بروحه، ولنجعل من المشاركة فيه شرفًا ومسؤولية، لأنه السبيل الأمثل لصناعة الغد الذي نريده.

ليلى أحمد الشيخ محمد المامي

 مستشارة رئيس حزب الإنصاف