
لم يعد الإعلام مجرد وسيلة لنقل الأخبار، بل صار ساحة مركزية للصراع على العقول والقلوب. والقضية الفلسطينية مثال صارخ على هذا التحول: إذ طالما عانت من احتكار الرواية الإسرائيلية في الفضاء الغربي، قبل أن تنجح قنوات بديلة ووسائل الإعلام الرقمي في كسر ذلك الاحتكار وإعادة صياغة الوعي العالمي.
من هيمنة الرواية إلى انكشاف الحقيقة
طوال عقود، مثلت مؤسسات مثل BBC وCNN المرجعية الإعلامية الغربية، وقدمت صورة نمطية تُشيطن الفلسطيني وتُقدس الإسرائيلي باعتباره "الضحية التي تدافع عن نفسها". هذه الهيمنة لم تكن مجرد مهنية صحفية، بل كانت تعبيرًا عن علاقات سياسية وضغوط لوبيات نافذة داخل غرف صناعة القرار الإعلامي. ولهذا ظلّ الرأي العام الغربي أسيرًا لرواية أحادية الجانب.
الجزيرة وفتح كوة في الجدار
مع ولادة قناة الجزيرة منتصف التسعينات، بدأت موازين الخطاب الإعلامي تتغير. لم تكتفِ الجزيرة بالطرح العربي الداخلي، بل توسعت بلغات عالمية، واستقطبت خبرات إعلامية من الغرب. عبر ذلك، نقلت القضية الفلسطينية بلسان يفهمه الأوروبي والأميركي، مقدمة سردية مغايرة أكثر إنسانية وأقرب للحقيقة. لقد شكلت برامجها التحليلية نافذة لم يكن الغرب يعرفها، وأعادت للضحايا أصواتهم، فكشفت جانبًا من الحقيقة التي حُجبت طويلاً.
ثورة الإعلام الجديد
ثم جاءت ثورة وسائل التواصل الاجتماعي لتقلب الموازين. لأول مرة لم يعد الفلسطيني بحاجة إلى وسيط؛ بات العالم يشاهد البث الحي من غزة، ويسمع الشهادات مباشرة عبر "تيك توك" و"تويتر" و"إنستغرام". ورغم محاولات تقييد المحتوى الفلسطيني، إلا أن حجم الصور والفيديوهات تجاوز كل محاولات الحجب. هكذا سقطت أسطورة الرواية الواحدة، ووجد المواطن الغربي نفسه أمام مشهد لم يعرضه له إعلامه التقليدي.
أرقام واستطلاعات تكشف تراجع التأييد لإسرائيل
في الولايات المتحدة، انخفضت نسبة من يوافقون على العمل العسكري الإسرائيلي في غزة إلى 32٪ فقط، وهو أدنى مستوى منذ بدء متابعة هذا المؤشر (Gallup 2025).
في استطلاع Quinnipiac، قال 47٪ فقط من الأميركيين إن دعم إسرائيل يخدم المصلحة الوطنية، بينما رأى 41٪ العكس (2025).
وفق واشنطن بوست، 37٪ من الأميركيين يعتبرون أن بلادهم تقدم لإسرائيل "أكثر مما تستحق" (سبتمبر 2025).
في أوروبا الغربية، أظهر استطلاع YouGov أن نسبة الرأي الإيجابي تجاه إسرائيل تراوحت بين 13٪ و21٪ فقط، بينما بلغت الآراء السلبية ما بين 63٪ و70٪.
في التفاصيل: صافي التفضيل لإسرائيل بلغ -44 في ألمانيا، -48 في فرنسا، -52 في إيطاليا، -55 في إسبانيا، -54 في الدنمارك، و-46 في بريطانيا (يونيو 2025).
وفق Pew Research، في 20 من أصل 24 دولة شملها الاستطلاع، نصف السكان أو أكثر لديهم رأي سلبي تجاه إسرائيل.
في الولايات المتحدة، ارتفعت نسبة من لديهم موقف سلبي من إسرائيل من 42٪ عام 2022 إلى 53٪ عام 2025 (Pew).
التباين الحزبي صار واضحًا: التأييد لإسرائيل بين الديمقراطيين الأميركيين هبط إلى حوالي 8٪ فقط، وبين المستقلين إلى نحو 25٪ (Brookings 2025).
هذه الأرقام تُظهر بجلاء أن الخطاب الإعلامي الجديد، بما فيه الإعلام الرقمي المباشر، نجح في إحداث تحول ملموس في الرأي العام الغربي.
الإعلام كسلاح سياسي
ما يحدث اليوم يبرهن أن الإعلام لم يعد ناقلًا محايدًا، بل صار سلاحًا سياسيًا يُغير الموازين. تراجع التأييد الشعبي لإسرائيل في الغرب ينعكس ضغوطًا على الأحزاب والبرلمانات والحكومات، التي لم تعد قادرة على تقديم شيكات مفتوحة لتل أبيب دون مساءلة من ناخبيها.
خاتمة: الهزيمة الإعلامية أخطر من الهزيمة الميدانية
إسرائيل لم تُهزم بعد عسكريًا، لكنها تخسر شيئًا أخطر: شرعيتها الأخلاقية وروايتها التاريخية. الإعلام البديل والرقمي سحب منها القدرة على احتكار الصورة والصوت، وأخرج الرواية الفلسطينية من الهامش إلى مركز الوعي العالمي.
إنها هزيمة ناعمة لكنها عميقة، وربما تمثل بداية التحول الذي طالما انتظره الشعب الفلسطيني: أن يُرى ويُسمع كما هو، لا كما يُراد له أن يكون.