حُقَّ للمفسدين أن يقهقهوا!

أربعاء, 2025-10-22 10:24

شكََّل صدور تقرير محكمة الحسابات ونشره للرأي العام فرصة حقيقية كان يمكن استثمارها لتسجيل هدف ثمين في مرمى الفساد، وأن يكون ذلك الهدف بداية لمعركة حقيقية وجادة ضد الفساد، وهي معركة طال انتظارها كثيرا.فالتقرير، بما تضمّنه من تفاصيل صادمة، كان يمكن أن يخلق أرضية صلبة وجامعة يلتقي عليها كل الساعين بصدق لمحاربة الفساد، مهما اختلفت مواقفهم السياسية أو تباينت انتماءاتهم الفكرية.اليوم أمامنا فرصة ثمينة لتشكيل حلف وطني واسع من المعارضين والموالين والمستقلين الساعين للإصلاح، يتفق على نقطتين اثنتين، وليختلف في كل ما سواهما:

الأولى: الترحيب الجماعي بالتقرير وتثمين نشره للرأي العام؛

والثانية: المطالبة الجماعية باتخاذ إجراءات حازمة ضد المشمولين فيه.لكن، وبسبب غياب ما يمكن تسميته بـ"الذكاء النضالي" لدى كثير من نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، الذين يرفعون شعار الإصلاح وينشغلون في الوقت نفسه بمعارك جانبية سخيفة، يبدو أننا سنهدر هذه الفرصة الثمينة، ليجني المفسدون وحدهم ثمارها.ومن يتأمل ما هيمن على النقاشات في الفضاء الافتراضي خلال اليومين الماضيين، يحق له أن يتساءل:

أيهما أَولى بالمواجهة: المفسدون الأذكياء أم "الصالحون الأغبياء"؟لقد تداول كثيرون مقطعا ينتقد ضيوف ندوة حول الفساد، واعتبر المتحدث في المقطع أن أولئك الضيوف من "باعة المواقف" الذين يستحقون أن يهجم عليهم وتشوه سمعتهم من طرف كل معارض صادق.

المضحك المبكي أن المقطع لقي تفاعلا واسعا من "ناشدي الإصلاح"، مع أنه شكك في أهلية أهم شخصيات يمكن أن تتحدث عن الفساد، شكك في أهليتها للحديث عن الفساد.

فمن ذا الذي يحق له في موريتانيا أن يتحدث عن محاربة الفساد إذا لم يحق ذلك للوزير السابق سيدي ولد أحمد ديه؟فللعلم، فإن الوزير سيدي هو أول من كشف وفتح ملف فساد كبير في البلاد في عهد الرئيس الراحل المختار ولد داداه، وهو الملف الذي أطاح بوزراء كبار، وسُجن سيدي لاحقا بسبب تداعياته.

ثم إن هذا الرجل ربما يكون هو الموظف السامي الوحيد الذي لم يستفد وظيفيًا إلا عشر سنوات من عمره المهني قبل التقاعد، بينما ضاع الثلثان الآخران من عمره الوظيفي وهو يتنقل بين السجن والبطالة، فكان يقال دائما كلما عين في وظيفة جديدة بسبب صرامته واستقامته.

خرج سيدي من مساره الوظيفي بلا منزل ولا سيارة، رغم أنه تولَّى وظائف سامية ومدرَّة للدخل.وهو إضافة إلى كل ذلك من القلائل الذين ألفوا عن الفساد، وهو اليوم أحد أشدَّ الداعين إلى محاسبة المشمولين في تقرير محكمة الحسابات، ومع ذلك يقول البعض إنه ليس أهلا لأن يكون ضيف ندوة تناقش محاربة الفساد!!!!! 

أما الضيف الثاني الذي نال حظّه من الهجوم، فهو مفتش دولة سابق، واجه كبار رجال الأعمال في فترات نفوذهم، وله خبرة واسعة في الأجهزة الرقابية داخل البلاد وخارجها.والأهم من كل ذلك أنه من القلائل الذين تجرؤوا على الحديث علنًا عن الفساد في ندوة تُبث مباشرة، ينظمها مركز لا يتبع للحكومة، وهذا مما لا يجرؤ عليه كثير من الموظفين اليوم.أما الضيف الثالث فهو الأمين العام لمنظمة الشفافية الشاملة، وهي أهم منظمة غير حكومية تنشط حاليا ضد الفساد في موريتانيا، فمن ذا الذي يستحق أن يتحدث عن الفساد باسم المجتمع المدني غيره؟

أما الضيف الرابع فهو الرئيس محمد جميل منصور، المعروف بمواقفه القوية ضد الفساد في فترة معارضته، وهي مواقف ما زال متمسكا بها وهو في الأغلبية.إن وجود تيار سياسي داخل الأغلبية يدعو لمحاربة الفساد أمرٌ يستحق التشجيع من كل معارض صادق، لا الهجوم والتشويه.

فكان الأولى أن تُدعَم الأصوات التي تنادي من داخل الأغلبية بمحاربة الفساد، لا أن تُستهدف في هذا الوقت الذي قد تتشكل فيه فرصة تاريخية لتوجيه ضربةٍ قوية للمفسدين.

صحيح أن هناك من ينتقد بشدة كل من ينتقل من المعارضة إلى الأغلبية، وقد يكون ذلك مبررا إذا كان الانتقال بدافع المصلحة الشخصية، لكن حين يكون هذا الانتقال ناتجا عن قراءة تحليلية للمشهد السياسي،  أو اجتهاد استشرافي، يسعى صاحبه لتحقيق مصلحة عليا للبلد من خلال تغيير التموقع.

فحينها يكون الانتقاد جائزا فهذا اجتهاد شخصي قد يصيب وقد يخطئ ، ولكن لا يجوز في هذه الحالة التشويه والتهجم الشخصي، والحديث عن بيع المواقف.هؤلاء هم الضيوف الأربعة الذين شُنّت ضدهم حملة واسعة من بعض من يرفعون شعار الإصلاح، حتى بدا كأنهم أولى بأن يحاربوا من المفسدين المشمولين في تقرير محكمة الحسابات.

فليضحك المفسدون، وليقهقهوا ما شاؤوا، فما دام بعض من يدَّعون الإصلاح ويرفعون شعاره بهذه السطحية وبهذا الغباء النضالي، فلا خوف على الفساد ولا خطر على المفسدين في هذه البلاد.

وتبقى المشكلة الكبيرة  أن خوض المعارك  في مواقع التواصل  الاجتماعي مع هؤلاء في غاية الصعوبة، وأنا شخصيا أفضل أن أُحارب مفسدا ذكيا على أن أُحارب رافعَ شعار إصلاحٍ بكل هذه السطحية والغباء النضالي.

إن من أصعب ما نواجهه اليوم كمهتمين بالإصلاح هو هذا الكمّ الكبير من الغباء النضالي الذي يتمدَّدً بسرعة،  لا تضاهيها إلا السرعة التي تنتشر بها التفاهة، وعندما يسيطر الغباء النضالي والتفاهة وملحقاتها على النقاش العام، فكبر أربعا على الإصلاح.

حفظ الله موريتانيا...

محمد الأمين الفاضل 

[email protected]