
يبدو أن موريتانيا تقف اليوم على أعتاب مرحلة قد تؤسس ـ إذا ما استُثمرت بذكاء ووعي ـ لحرب حقيقية ضد الفساد والمفسدين، بعد عقود طويلة ظل فيها هذا الداء ينخر جسد الدولة والمجتمع دون رادع فعلي.بالفعل، هناك خطوات جريئة ومتسارعة اتخذت مؤخرًا يمكن استغلالها من طرف النخب المهتمة بمحاربة الفساد، وجعلها منطلقا لتشكيل جبهة وطنية واسعة لمحاربة الفساد. أول هذه الخطوات كان نشر تقرير محكمة الحسابات للرأي العام، مباشرة بعد تسليمه لفخامة رئيس الجمهورية، وتمثلت الخطوة الثانية في إنهاء مهام عدد كبير من المسؤولين السامين في مجلس الوزراء الأخير، وهي خطوة غير مسبوقة من حيث عدد ومكانة الموظفين الذين تم إنهاء مهامهم، ثم جاءت الخطوة الثالثة، وهي إحالة ملف المشمولين في التقرير إلى القضاء، وهو ما يعطي الانطباع بالجدية، خاصة وأن ذلك سبقه خطاب لرئيس الجمهورية أكد من خلاله أنه لا تراجع عن محاربة الفساد.
خطوة استباقية
إن التجارب السابقة علمتنا أن كل خطوة في اتجاه محاربة الفساد ستثير ردود فعل مضادة لدى بعض صناع الرأي العام، فشبكات المصالح لا تستسلم بسهولة، وتعمل دائما لإرباك اي خطوة في هذا الاتجاه، ووقوفا ضد أي محاولة من هذا النوع، جاءت مبادرة التعهد الشخصي العلني والموثق بعدم الدفاع أو التعاطف مع المشمولين في تقرير محكمة الحسابات، كخطوة استباقية ذكية لحماية تلك الإجراءات من حملات إعلامية مضادة، فكثيرون ممن يرفعون شعار محاربة الفساد، لا يلبثون أن يتراجعوا إذا ما طال التحقيق قريبا أو صديقا أو شريكا في مصلحة ضيقة من أي نوع، فعندها يتبخر الشعار أمام العاطفة والمصلحة الضيقة. ومن هنا، جاء التعهد ليذكر كل موقع بأن الحرب على الفساد لا ينبغي أن تكون فيها استثناءات، وأن على من يطالب بمحاربة الفساد وتطبيق القانون أن يكون أول من يحترمه، إذا ما كان المستهدف قريبا أو شخصا تربطه به مصالح من أي نوع.لقد نجحت هذه المبادرة نجاحا لافتا، إذ حظيت بعدد كبير من الموقعين، فيما كانت حالات الإخلال بالتعهد قليلة جدا بعد الإقالات.
وللتأكيد، فإننا في هذه المبادرة لا ندين أحدا، فالإدانة من اختصاص القضاء لوحده، وأكرر فأقول من اختصاص القضاء وحده، ومن ينادي بمحاربة الفساد عليه أن يكون هو الأشد حذرا من الإساءة إلى سمعة أي شخص دون بينة، لكننا في المقابل نرفض تلميع المشمولين في التقرير قبل أن يقول القضاء كلمته.بكلمة واحدة لا لإدانة المشمولين في الملف قبل أن يدينهم القضاء، ولا لتلميعهم إعلاميا والجزم ببراءتهم قبل أن يبرئهم القضاء.خطوة حاسمةأما الخطوة الحاسمة في التحضير لتشكيل هذه الجبهة، فقد تمثلت في تنظيم يومين مفتوحين حول مخاطر الفساد وآثاره على المجتمع والدولة.
شكَّل هذان اليومان حدثا غير مسبوق من حيث التنوع والمشاركة والجرأة في الطرح، حيث استقطبا عددا كبيرًا من المهتمين بالشأن العام، وغطت النقاشات أكثر من 13 ساعة، وتم توثيق نحو 90 مداخلة بالصوت والصورة، لتشكل بذلك أكبر عملية عصف ذهني موثق حول الفساد وآليات محاربته في موريتانيا.ورغم ضغط الوقت وصعوبة الإعداد، وضيق ذات اليد التي حالت دون التكفل بتوفير غداء أو استراحة شاي على الأقل للمشاركين، فقد كان الحرص على تنظيم اليومين المفتوحين في أسبوع واحد جزءا من رؤية واضحة تهدف إلى ملء الفراغ الإعلامي والسياسي قبل أن تملأه الأصوات المربكة والمشككة. وكانت المجازفة كبيرة ببث مباشر طويل ومفتوح، يسمح لكل مشارك أن يعبر عن رأيه بحرية تامة، وهو ما كان يمكن أن يُستغل لإفشال النشاط أو تشويهه.
لكن النتيجة كانت - بفضل الله وتوفيقه - عكس ذلك تماما؛ فقد أثبت المشاركون قدرا عاليا من المسؤولية، ودار الحوار في أجواء ناضجة رغم التباينات الكبيرة في وجهات النظر.و خلال اليومين المفتوحين، أجمع المشاركون على ضرورة تشكيل حلف أو جبهة وطنية واسعة لمحاربة الفساد، تكون بمثابة المظلة الجامعة لكل الجهود الفردية والجماعية المناهضة للفساد. وتم بالفعل تشكيل لجنة من أحد عشر عضوا من بين المشاركين، عقدت اجتماعها الأول مساء الأحد 26 أكتوبر 2025، وبدأت بالفعل في وضع اللبنات الأولى لتأسيس أكبر تحالف وطني لمحاربة الفساد في تاريخ البلاد.
إن أهمية هذه الجبهة تكمن في أنها ستقف في وجه جهتين تشكلان خطرا حقيقيا عل محاربة الفساد:الجهة الأولى داخل الأغلبية، فمن الأغلبية من قد لا يكون متحمسا أصلا لهذه الحرب، ومنها من قد يسعى إلى تمييع المؤازرة الشعبية لها، وذلك من خلال إطلاق مبادرات قد يتصدرها مفسدون، مما يحوِّل واجهة الحراك ضد الفساد إلى واجهة تنفر أكثر مما تستقطب. أما الجهة الثانية فهي في صفوف المعارضة، وقد تحاول بخطاب عدمي تفريغ الخطوات المتخذة من مضمونها، وستعتبر تلك الخطوات مجرد تصفية حسابات من أجل تبديل موظفين بآخرين، وهذا خطاب لا يخدم في مضمونه إلا المشمولين في الملف.
وإلى جانب هذا الدور المهم، فإن الجبهة المنتظرة ستعمل أيضا على حشد الطاقات الوطنية الجادة في محاربة الفساد من مختلف الفئات والاتجاهات والتخندقات، وجمعها تحت مظلة واحدة تناصر كل خطوة جادة في هذا الاتجاه، وتضغط باتجاه اتخاذ المزيد من الإجراءات الجريئة.
نحو مرحلة جديدة
إن ما يجري اليوم يمكن اعتباره لحظة اختبار حقيقية لإرادة الدولة والمجتمع معا. فالحكومة أظهرت استعدادا واضحا لاتخاذ قرارات جريئة، والمجتمع المدني بدأ يتحرك لحماية هذا المسار ودعمه، وإذا ما التقت الإرادتان، الرسمية والشعبية، في اتجاه واحد، فإننا قد نشهد انطلاق حرب حقيقية على الفساد تضع حدا لثقافة الإفلات من العقاب، وتؤسس لعهد جديد تُحترم فيه القوانين، ويحمى فيه المال العام من النهب، وتُصان فيه المصلحة العامة.حفظ الله موريتانيا...
محمد الأمين الفاضل
.jpg)

