
الرئيس ولد الغزواني هو الوريث المخلص لتراث عائلي عريق يطبعه الصبر المشهود والتواضع الفطريّ ، والكياسة الراقية، والميل إلى حياة زاهدة وروحانية عميقة بقدر ما هي متحفظة.
ولهذا السبب، وجد صعوبة، كلما دعت الحاجة، في خوض الحملات الانتخابية، لما تتطلبه هذه الأخيرة من تقديم الأنا والتذكير بالمزايا الشخصية مع أنه يتصف بها بكل وضوح.
خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، عملت معه كناطق باسم المرشح، وبشكل أعم، كمستشار سياسي، لاحظتُ الانزعاج الشديد، والقلق، وحتى الإحراج الذي كان يشعر به باستمرار في التوفيق بين متطلبات الظهور المفرط الذي يفرضه التزامه السياسي، وبين ضبط النفس، والتحفظ، والتواضع، ونكران الذات التي لطالما غرستها فيه تربيته وعمقه الأخلاقي.
في عدة لقاءات فردية، سواءً وجهاً لوجه أو عبر الهاتف، منحني الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني امتياز شرح منهجه وأسلوبه.و لطالما آمنتُ بأن البلاد كلها تحتاج لأن تطلع على ما أتحفني به من إضاءات . ومع ذلك لم أحاول إقناعه بالجهر به على الملء ، لأني كنت أعلم في قرارة نفسي أن ذاك المزيج من الأخلاق الصارمة والورع الراسخ سيمنعه طويلًا من مثل ذلك التصريح ، إن لم يكن إلى الأبد.
لكنني كنت آمل (وكنت مقتنعًا تماما ) أن ممارسة السلطة، بضوابطها، ومتطلباتها وإكراهاتها ستقوده في النهاية إلى ذلك التحول بهدوء طبعه .
بعد ست سنوات في رئاسة الجمهورية، انتهت فيها ولاية وبدأت أخرى، خفف (أخيرًا!) من حذره في انبيكة لحواش.
تواضع الرئيس جعله يكشف عن نفسه، ويفتح خباياه للبلاد بأسرها... من أقصى بقاع ترابنا الوطني الشاسع: كما لو كان يصر على انتقاء مكان بعيد عندما يتعلق الأمر بالحديث عن نفسه…
ومع ذلك، فإن ما قاله مساء السبت، من بعيد، في انبيكة لحواش، هو البيان الأكثر سياسية، والأكثر ترقبًا، والأكثر صلة، والأكثر فائدة، والأكثر ضرورة.
لقد أكد اتباعه منهجية ثابتة في التعامل مع الشأن العام و فصل فيها :"التدرج [ومن ثم الإصلاح لا الثورة]، والصبر [ومن ثمّ أخذ الوقت بدلًا من التسرّع]، والتفهم [ومن ثمّ معرفة كيفية وضع النفس مكان الآخر]، والسعي، في جميع الظروف، لضمان عدم تراجع البلاد، أو حتى توقفها، بل الاستمرار في إنجاز الأهداف، محرزًا دائمًا تقدمًا جديدًا في الاتجاه الصحيح، وهذا بأقلّ تكلفةٍ وأضرارٍ لكلّ واحدٍ منكم،فأنا أحبكم جميعا و حنون على كل واحد منكم و اهتمّ به.ولكن كلّ هذا يُفهم ضمن حدود عدم المساس بالمصلحة العامة، وهو ما أشرتُ إليه في بداية كلمتي: إذا هم احد ان يصل إلى تلك ما الحدود يومًا ما، فإنّ كلّ ما قلته هنا سيصبح بلا جدوى [إشارةً إلى الصبر والتسامح]."
وتابع خطاب المصارحة و المكاشفة هذا بتوضيح حدود التسامح مع العوامل القبلية والجهوية و الشرائحية الاجتماعية : يجب ان يسمع التحذير الصادر في أقصى شرق البلاد في كلّ شبر منها .
لقد أعجبني كثيرًا، وبالتأكيد أعجب الكثير من أبناء وطني، التمييز الدقيق الذي شرحه هنا الرئيس بأسلوب تربوي مُتقن:- مبدأ الواقعية : نعم، القبائل والجهات و الشرائح الاجتماعية موجودة؛ لا أحد ينكر ذلك- مبدأ الإرادة: لا لترقية هذه الكيانات على حساب الدولة والأمة، اللتين يتطلب بناؤهما وتعزيزهما تجاوز تلك الانتماءات لترسيخ هوية وطنية موحدة، الهوية الوحيدة التي تهم و تفيد حقا!
سيتذكر المؤرخون، في القرن القادم، بعد رحيلنا كلنا بفترة طويلة، أنه في انبيكة لحواش، على هضبة "أظهر" الحوظ ، مساء يوم سبت 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، كاد الرئيس الغزواني، الذي عادةً ما يتجنب البوح بالأسرار، وخاصة امام الملأ ، أن ينتقل من الغموض الاستراتيجي إلى الشفافية الديمقراطية!
مع أنه، عند وصوله في نهاية خطابه مرحلة التحذير، عاد إلى نبرة التلميح ، التي هي انسب تمامًا هنا لمقام الرئيس وللطبع الهادئ والمتزن الذي يميز ولد الغزواني.
ما حصل في أنبيكة لحواش نقطة تحول رئيسية: من المرجح أن تكون فترة ما بعد الثامن من نوفمبر مختلفة تمامًا عن الفترة التي سبقتها...يأتي هذا معضدا للخطاب الرئاسي الأخير حول التصدي الدؤوب لجميع أشكال الفساد المالي.
هاتان معركتان، في رأيي المتواضع، ملهمتان للغاية: استعادة الطابع النموذجي للدولة، كمرجعيّة للجميع وملك لكل فرد منا.
ما قاله الرئيس في انبيكة لحواش أهم من تعداد الإنجازات، في النعمة مع أنها كانت في محلها.إذ لا يجب اختزال السياسة في سرد عدد من الإنجازات الملموسة.
بل من الأفضل أن تستحضر مبادئا وقيمًا أكثر سموا، وإرثًا فكريًا، وسرديات غير مادية تُحيط بالواقع، وتُضفي عليه ألوانًا نابضة بالحياة وجذابة، وتُضفي عليه معنى، وتجد صدى عميقًا لدى الجمهور.
لذا، ولبقية الزيارة، يُنصح بالتركيز باستمرار في استيعاب خطاب الرئيس على الركائز الثلاث، التي ذكرها في النعمة وانبيكة كل على حدة، والتي سيتعرف عليها الجمهور بسهولة:- هذا هو تقييم أعمالنا، وبالتالي حالة البلاد؛- هذه هي مشاريعنا المستقبلية الرئيسية والتحديات التي نواجهها؛- هذا هو سبب بذلنا كل هذه الجهود: بناء دولتنا، بلدنا، على أسس متينة، وجعلها أكثر عدلاً وكفاءة، وتوزيع الفرص والإمكانيات بالتساوي على الجميع (وهنا يتضح جلياً استحضار متطلبات المواطنة). - لا ضرر في تكرار التذكير بمزايا الانتماء للدولة. لا يمكن لأي قبيلة أو جهة او شريحة توفير الماء أو الكهرباء، أو بناء المدارس أو المستشفيات، أو شق الطرق، أو حتى تشغيل أي من هذه الخدمات باستمرار ! الدولة وحدها القادرة على ذلك. الدولة وحدها قادرة على تحقيق تطلعاتنا الجماعية.
ولكن الرئيس غزواني حتى في لحظة صفاء و مصارحة و مكاشفة في انبيكة لحواش ، تورع ، بدافع التواضع المشروع، عن ذكر أبرز سماته وأكثرها إثارة للإعجاب، وأكثرها فائدة للبلاد وللعباد ، لمعارضيه كما لمؤيديه ولعامة الموريتانيين : حب الخير و الإحسان للكل الذي حباه الله به بسخاء. الإحسان وحده برنامج متكامل، وله الفضل في تجسيده كما لو كان فطرة فطره الخالق عليها لا تتطلب منه جهدا. هذا هو الحظ العظيم للبلاد بوجوده رئيسًا منذ عام 2019. ولكن الجهر به ليس منتظرا من الرئيس نفسه بل هو متوقع منا جميعًا أن نقوله ونجعله مفهومًا لكل مواطن من مواطنينا، وحتى لشركائنا الأجانب.
.jpg)

