
يُعد التكوين المهني أحد الأعمدة الأساسية لمنظومة التنمية البشرية، لدوره المحوري في إعداد اليد العاملة المؤهلة والمساهمة المباشرة في خلقفرص العمل للشباب. وفي بلد يشكل فيه الشباب النسبة الأكبر من التكوينالسكاني، تتضاعف أهمية التكوين المهني باعتباره استراتيجية فعالة للحدمن البطالة وتعزيز الإنتاجية والاقتصاد الوطني.
غير أن واقع هذا القطاع في موريتانيا يكشف عن جملة من الإشكالات الهيكلية والمعوقات البيداغوجية التي تحول دون تحقيق الأهدافالمرجوة منه. تتمثل هذه المعوقات في فجوات عميقة بين مخرجات التكوينومتطلبات سوق العمل، وتتغذى من عوامل عدة، أبرزها: نقص الفضاءاتالتطبيقية، وضعف تأهيل الكادر البشري، وقصور المناهج التعليمية، وتراخيآليات انتقاء المتدربين. توفر هذه العوامل مجتمعة بيئة تكوينية لا ترتقي إلىمستوى إنتاج المهارات العملية اللازمة للنمو الاقتصادي.
المحاور الخمسة للتحدي الهيكلي
أولاً: قصور البنية التحتية وغياب الورشات التطبيقية
لا يمكن تصور تكوين مهني فعال دون فضاءات تطبيقية مجهزة. فالورشاتهي المركز العصبي لاكتساب المهارات وتحويل المعارف النظرية إلىممارسات ميدانية. تعاني العديد من مؤسسات التكوين المهني في موريتانيامن نقص حاد في التجهيزات، أو من وجود ورشات غير ملائمة أو قديمة لاتتوافق مع التخصصات الحديثة التي يجب أن تخدمها. هذا القصور يحوّلالعملية التكوينية إلى تعليم نظري شبه كامل، مما يؤثر سلبًا على جودةالخريجين، إذ يفتقر المتدرب للحد الأدنى من الخبرات العملية المطلوبة لمزاولةالمهنة، مما يقلل بشكل حاد من تنافسيته في سوق العمل.
ثانياً: ضعف التكوين المستمر للمُكوّنين
تُعد كفاءة المُكوّن العنصر الأهم في نجاح منظومة التكوين المهني، فهوالمسؤول عن نقل المعرفة والمهارة وضمان مواكبة التطورات التقنية السريعةفي مختلف المهن. إن غياب برامج التكوين المستمر والمنتظم للمُكوّنينيؤدي إلى اعتمادهم على طرق تدريس تقليدية ومحتويات قد تكون متجاوزةتقنياً أو فنياً. ففي ظل الثورة الرقمية والتطور المتسارع في أساليب وأدواتالإنتاج، يحتاج القطاع إلى مُكوّنين يمتلكون معرفة وخبرة متجددة. هذاالغياب يسهم في خلق فجوة معرفية عميقة بين ما يُدرّس داخل المراكز وبينالمتطلبات الحقيقية لسوق العمل.
ثالثاً: إعداد البرامج بمعزل عن الواقع المهني
تتمثل إحدى الإشكالات البيداغوجية البارزة في أن عملية إعداد البرامجالتعليمية تتم غالبًا بشكل مكتبي، دون إشراك فعلي للمتخصصين ذويالخبرة العملية في المهن المعنية، أو ممثلي الحرفيين والمؤسسات الإنتاجية. هذا الابتعاد عن الورشات الحقيقية ومتطلبات السوق ينتج عنه برامج نظريةلا تعكس الواقع العملي للمهنة ولا تواكب حاجيات السوق المتغيرة. والنتيجةهي تخريج كفاءات نظرية تفوق كفاءتها التطبيقية، مما يضعف قدرة القطاععلى سد الفجوات المهنية داخل الاقتصاد الوطني.
رابعاً: قصور آليات الانتقاء وضبط امتحانات الدخول
تؤثر آليات اختيار المتدربين بشكل مباشر في جودة التكوين. إلا أن بعضمؤسسات التكوين المهني تعتمد على امتحانات دخول شكلية لا تقيسالكفاءات الأساسية كالاستيعاب والقراءة والكتابة والحساب. يؤدي هذا إلىقبول متدربين بمستويات معرفية متدنية، يكونون في الغالب عاجزين عنمتابعة المقررات النظرية أو التطبيقية بكفاءة. إن قبول هذه الفئة دون تكييفأو برامج تأسيسية مسبقة يضعف مستوى الأقسام، ويزيد من نسب الرسوبوالانقطاع، وينعكس سلبًا على صورة المؤسسة ومخرجاتها لدى القطاعالخاص.
خامساً: ضعف التكامل بين مؤسسات التكوين والقطاع الخاص
يظل التعاون بين مؤسسات التكوين المهني والقطاع الخاص في موريتانيامحدودًا وضعيفًا، على الرغم من الدور المحوري الذي يلعبه القطاعالخاص في تحديد الاحتياجات المهنية وتوفير فضاءات للتدريب العملي عاليالجودة. غياب هذا التكامل يجعل العملية التكوينية منعزلة عن البيئة الإنتاجيةالحقيقية، ويقلل من فرص الإدماج المهني الفوري والفعّال للخريجين.
توصيات استراتيجية لمعالجة التحديات
لمعالجة هذه الإشكالات الهيكلية، يقترح المقال مجموعة من الإجراءات التييجب أن تشكل محاور لسياسة وطنية شاملة:
● تأهيل البنية التحتية: تجهيز ورشات عملية حديثة ومطابقةللمعايير الدولية لكل تخصص، وتحديث المعدات بشكل دوريومواكب للتطورات التقنية.
● إرساء منظومة التكوين المستمر: إنشاء برامج سنوية ملزمةلتحديث المعارف والمهارات للمُكوّنين، وإبرام شراكات دولية لتبادلالخبرات، واعتماد شهادات مهنية محفزة.
● إصلاح آليات إعداد المناهج: إشراك فاعل للخبراء المهنيين، الحرفيين، وممثلي أرباب العمل في تصميم المناهج، والتحولنحو مناهج قائمة على الكفاءات والمهام العملية (Approchepar Compétences).
● تطوير آليات قبول المتدربين: اعتماد اختبارات حقيقيةوشفافة لقياس الكفاءات الأساسية، وفرض برامج دعم مكثفةللطلاب ضعيفي المستوى قبل أو أثناء انطلاق التكوين.
● تعزيز الشراكة مع القطاع الخاص: توقيع عقود تدريب ملزمةبين المراكز والمؤسسات الخاصة، وتوسيع نطاق التدريبالتناوبي (التكوين بالتناوب بين المؤسسة وورشات المهنيين)، وتوفير حوافز ضريبية أو مالية للمؤسسات التي تستقبلالمتدربين.
خاتمة: التكوين المهني كرافعة للتنمية
يمثل إصلاح قطاع التكوين المهني ضرورة حتمية وطنية لمواجهة التحدياتالاقتصادية والاجتماعية في موريتانيا. إن استمرار عوامل مثل غيابالورشات العملية، وضعف تأهيل الكوادر، والمناهج النظرية، وآليات القبولغير الدقيقة، يُقيد قدرة القطاع على إنتاج مهارات فعالة ومنتجة.
ومع ذلك، فإن تبني سياسة وطنية واضحة، ترتكز على التجهيز المناسب، تطوير الموارد البشرية، الشراكات المهنية الفاعلة، واعتماد المقارباتالبيداغوجية الحديثة، يمكن أن يحوّل التكوين المهني إلى رافعة حقيقيةللتنمية الاقتصادية، وجسر فعّال ومستدام لدمج الشباب في سوقالعمل، مساهمًا بذلك في بناء اقتصاد وطني قائم على المهارة والكفاءة.
.jpg)

