
آسيا العتروس
كنا نعتقد أن خبر نقل ألمانيا عددا من الحمير من غزة خلال حرب الابادة لانقاذها وايواءها في مدن ألمانية نكتة سمجة لا محل لها في الواقع.
قبل أن يتأكد الخبر الذي أوردته في حينه ونقلته منصة “إن دي-أكتويل” الإخبارية عن جمعية إسرائيلية تسمى “ملاذ للبداية الجديدة” قولها إنها أخلت هذه الحمير جوا إلى ألمانيا عبر بلجيكا لايواءها في عدد من الولايات الالمانية, و يبدو أن عدد الحمير المحظوظة التي تم نقلها من غزة على مدى سنتين من الحرب بلغ 600 حمار..
وحتى لا نتهم بانتهاك حق الحيوانات فقد كان يمكن تمرير هذا الخبر ضمن انسانية الغرب وقيمه التي لا تفرق بين انسان وحيوان لو أن الحكومة الالمانية كانت أكثرانسانية ورفقا باطفال غزة وأهلها وهي التي ظلت على موقفها الرافض لعلاج الأطفال الجرحى من غزة في مستشفيات ألمانيا، و رفضت كل المبادرات التي قامت بها بعض الجمعيات في ألمانيا رغم كل الدمار الذي استهدف مستشفيات غزة تحت القصف الاسرائيلي …
هناك حقائق مرعبة في عالم اليوم وهي أن تسعى الدولة التي ارتبط تاريخها بالمحرقة اليهودية الى التخلص من لعنة التاريخ و التحرر من عقدة الماضي والتطهر من دماء تلك المحرقة بمنح ضحاياها في الماضي كل أسباب الدعم السياسي و التمويل العسكري لتكرار الجريمة في حق شعب اخر لا علاقة له بتلك المحرقة من قريب أو بعيد ..بل بالعكس فان ذلك الشعب ونقصد الشعب الفلسطيني منح اليهود الناجين من المحرقة الامان وفتح لهم وطنهم وتقاسم معهم كل ما يملك قبل أن يجد نفسه مطاردا ومشردا على أرضه ومحروم من أبسط حقوقه في البقاء بسبب وعد زائف أن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض..طبعا نتحدث عن ألمانيا التي تكشف اليوم عن سياسة عنصرية بغيضة ازاء الفلسطينيين وتسمح حكومتها ومستشارها فريديرتش ميرتس بأن تكون بلاده شريكا في العلن في مجزرة العصر و هذا ما يتجلى على وقع زيارة المستشار الالماني نهاية الاسبوع الى اسرائيل ..من المفارقات الصارخة في الديبلوماسية الدولية في زمن تمدد اليمين المتطرف والشعبوية الهدامة أن تتحول المحرقة اليهودية التي التزم المجتمع الدولي بعد الحرب العالمية الثانية بعدم تكرارها فتصبح أداة للتطبيع مع جريمة ابادة ترتكب في القرن الواحد و العشرين في حق شعب مستضعف تحت أنظار العالم وبدعم و تمويل القوى الكبرى فيه ..والواقع أن الحليف الامريكي الذي كان ولا يزال الحليف الاكبر والاهم للكيان الاسرائيلي لا ينافسه فيما يقوم به غير ألمانيا ..و قد لا نبالغ اليوم اذا اعتبرنا أن الديبلوماسية الالمانية تبقى ذلك المثال المفضوح على سياسة الرياء و النفاق للكثير من دول الغرب التي تبحث اليوم لنفسها عن صك البراءة و تخليص الضمير من المحرقة اليهودية ..نقول هذا الكلام على وقع الزيارة الاولى من نوعها للمستشار الالماني ميرتس الى كيان الاحتلال الاسرائيلي و ما رافقها من استعراض فج لديبلوماسية العنصرية الحمقاء و الامعان في الغاء و تزييف الحقائق …صحيح لا أحد كان يتوقع من ألمانيا الرسمية موقفا حازما من الجرائم التي ارتكبها و يواصل ارتكابها رئيس وزراء اسرائيل و لكن كان ولا يزال للديبلوماسية حد أدنى من التوجهات والقيم والاخلاقيات التي بدونها ينتفي القانون الدولي و يعلو قانون الغاب …و من هذه المفارقات أن يستبق المستشار الالماني زيارته الى تل أبيب و لقاءه برئيس الوزراء الاسرائيلي ناتنياهو و الرئيس هرتزوغ أنه بادر بالاتصال بالرئيس الفلسطيني محمود عباس ليملي عليه توصياته بضرورة اجراء الاصلاحات المطلوبة حتى يرضى عنه الغرب و يبارك بقاءه على رأس سلطة يصر ناتنياهو و معه حلفاؤه في الحكومات الغربية على أن تكون سلطة صورية لا دور لها في غزة بعد الابادة و لا دور لها في الضفة حيث يرتع الاحتلال ومعه قطعان المستوطنين…
وهذا في الحقيقة ليس الا أحد الاسباب في قائمة الاسباب الكثيرة التي تجعل زيارة المستشار الالماني زيارة عنوانها العنصرية والنازية المفضوحة.. المستشار الألماني فريدريك ميرتس الذي زار تل أبيب وتوقف في نصب ياد فاشيم التذكاري للهولوكوست , لم يكلف نفسه عناء الوصول الى رام الله التي لا تحتاج لاكثر من ساعة ليكون هناك ففي تقديره أن زيارة الضفة الغربية للتنديد بالحرب التي يشنها المستوطنون القادمون من الاقاصي لسرقة الارض والعرض متسلحين بأسلحة قادمة في أحيان كثيرة من المصانع الالمانية ليس مهما, ولكنه اختار في المقابل التعاطي مع رئيس السلطة الفلسطينية بعقلية متعالية مكابرة تستنسخ عقلية كل احتلال بغيض متعطش للدم ..ميريتس المستشار الزعيم السابق للاتحاد الديموقراطي المسيحي و رئيس الائتلاف الحاكم هو في الاصل محام و قاض له مسيرة طويلة في مجال الاعمال والصفقات و منها شركة بلاك روك black rock اكبر شركة لادارة الاصول و الاستثمارات في العالم و لها تواجد عالمي و لها دور مؤثر في الاسواق العالمية بما في ذلك الشرق الاوسط ..وحتى لا نجانب الصواب وجب الاشارة الى أن زعيم اليسار الألماني يان فان آكين , كان وجه انتقادات حادة لزيارة المستشار الألماني فريدريش ميرتس، الى إسرائيل للقاء ناتنياهو اعتبر أن في ذلك اعلان حرب ضد القانون الدولي بسبب لقاء ميرتس ناتنياهو رغم صدور مذكرة توقيف دولية بحقه بتهمة ارتكاب جرائم حرب.. اكين انتقد أيضا استئناف تزويد ألمانيا اسرائيل بالسلاح ووصف ذلك بالفضيحة السياسية ..وموقف اليسار المعارض في ألمانيا ليس نابعا من فراغ فقد أظهرت استطلاعات الرأي أن 62 بالمائة من الشعب الالماني يعتبر أن ما تقوم به اسرائيل في غزة ابادة و رغم كل القيود الامنية والضغوط والترهيب فقد خرج الشارع الالماني للتظاهر ضد جرائم اسرائيل في غزة تماما كما فعلت أغلب شعوب الارض الرافضة لسياسة اسرائيل و لصمت وتواطؤ المجتمع الدولي ..ولو أننا توقفنا عند تصريحات المستشار الالماني في تل أبيب سنجده أكثر صهيونية من الصهاينة وهو الذي ظل يردد أن لالمانيا التزام تاريخي بدعم اسرائيل دون قيد أو شرط , وسبق وأقر بأن من حق اسرائيل الدفاع عن نفسها لان ذلك هو الطريقة الوحيدة لضمان حقها في الوجود .. و عارض قرار الجنائية الدولية لملاحقة ناتنياهو و غالانت و اعتبر انه غير عادل و ينسف الشرعية الدولية و هو ايضا من صرح خلال حرب الاثني عشر يوما بين ايسران و اسرائيل ان اسرائيل تقوم بالعمل القذر نيابة عن كل الغرب و اخيرا و ليس اخرا فان المستشار الالماني من ضغط على الحكومة الالمانية لاستئناف ارسال السلاح الى اسرائيل و انهاء الحصار الجزئي على صادرات السلاح الذي اعلن لمدة شهرين بسبب العدوان على غزة ..
«و قال ميريتس لا يسعني الا أن أُعبر عن أكبر قدر من الاحترام تجاه الجيش الإسرائيلي والقيادة الإسرائيلية لشجاعتهما في القيام بذلك..الدعم الالماني الاهم و الاخطر لاسرائيل هو الدعم العسكري حيث تحتل ألمانيا المرتبة الثانية بعد أمريكا في تزويد اسرائيل بالسلاح بالتوازي مع ذلك تفاقم قمع الاحتجاجات الشعبية ضد الحرب في غزة في المانيا ..ألمانيا تتطهر من المحرقة اليهودية و تسمح لضحايا الامس بتكرار جرائمهم تحت كل الشعارات المغالطة التي باتت تبرر الابادة في حق الفلسطينيين .. في غزة اليوم و منذ دخول ما يوصف باتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ في أكتوبر “يُقتل في القطاع طفلان يوميا جراء الهجمات الإسرائيلية” لا نخال أن أخبارهم بلغت المستشار الالماني على عكس أخبار الحمير التي تهرب من غزة بدعوى حمايتها من الجوع والقصف والحال أن الحمير في غزة وسيلة النقل المتبقية لاهالي القطاع الذين يواجهون الموت البطيء …
كاتبة وصحفية تونسية


