حكايات شعبية من مدينة وادان

خميس, 2025-12-18 10:28

 تستعد مدينة وادان لأن تحتضن نسخة جديدة من مهرجان مدائن التراث، وقد تكون هذه هي أفضل مناسبة للتعريف بهذه المدينة التاريخية الرائعة وبآثارها المدهشة.

سأحاول في هذا المقال أن استعرض معكم لمحات سريعة من تاريخ هذه المدينة العريقة من خلال مجموعة من الحكايات الشعبية التي لا يمكن الجزم بدقة بعضها، ولا نفي المبالغة عن بعضها الآخر، حتى وإن ظلت الأجيال الوادانية تتناقل تلك الحكايات جيلا بعد جيل. مدينة وحكاياتكل شيء في مدينة وادان له حكاية تُروى، وأسطورة تحكى، فلموقع منازل مؤسسي المدينة حكاية؛ وللمسجد حكاية؛ وللسور حكاية؛ وللبئر المحصنة حكاية؛ وللأضرحة حكاية؛ ولشارع الأربعين عالما حكاية؛ ولوادي العلم والتمر أكثر من حكاية.

كل شيء في مدينة وادان له حكاية تستحق أن تُروى، ولعل الأصعب هو أن نعرف من أين نبدأ الحكاية.

حكاية المؤسسين

إن الحديث عن تاريخ وادان يبدأ حتما بالحديث عن ثلاثة رجال من طراز نادر، جمعهم طلب العلم عند القاضي "عياض"، ثم جمعهم الحج، فعُرفوا بالحجاج الثلاثة، ثم جمعتهم بعد ذلك كله فكرة طموحة وحلم كبير، فقرروا أن يؤسسوا مدينة وادان ليشتهروا بالمؤسسين الثلاثة، وقد التحق بهم حاج رابع، سيصبح فيما بعد هو المؤسس الرابع لهذه المدينة. هؤلاء الرجال المؤسسين لم يجمعهم نسب واحد، ولكن جمعتهم فكرة واحدة ومشروع واحد، وكانت تلك مجرد ميزة واحدة من ميزات عديدة لمؤسسي مدينة وادان.

فلم يكن من المألوف في ذلك الزمن أن يقرر رجال من أنساب مختلفة تأسيس مدينة واحدة جمعت عدة قبائل في انسجام نادر.

ففي العام 536 هجري الموافق 1142م، قرر الحاج "يعقوب القرشي"، والحاج "عثمان الأنصاري"، والحاج "علي الصنهاجي" أن يؤسسوا مدينة وادان، وبعد ذلك انضم إليهم الحاج "عبد الرحمن الصائم"، وكانت تلك هي البداية لمشروع  طموح، بدأ بفكرة، وتحول إلى مدينة مزدهرة وعامرة.

ومن اللافت أن منازل المؤسسين الثلاثة، لم يتم تشييدها بجوار المسجد القديم، وكان من المفترض أن تكون هي المنازل المجاورة له، ويفسر الوادانيون ذلك بأن المؤسسين الثلاثة أرادوا أن تكتب لهم خطاهم إلى المسجد مع كل صلاة، فابتعدوا قليلا بمنازلهم عن المسجد، ولا غرابة في أن يفكر علماء عُبَّاد بتلك الطريقة.

 حكاية المنارة والدهن        

 حُقَّ للوادانيين أن يفتخروا بأنهم هم أول من صدح على هذه الأرض بالآذان من منارة مسجد، حسب بعض الروايات. فمنارة مسجد وادان الذي تم تشييده منذ 870 عاما، ربما تكون أقدم منارة في هذه البلاد. وحُقَّ للوادانيين أن يفتخروا كذلك بأنهم استطاعوا بعد مرحلة التأسيس ومسجدها، أن يشيدوا مسجدا جامعا بين جمعتين، حسب ما تقول رواياتهم الشعبية.

فمسجد المدينة القديمة وجامعها الحالي تم تشييده في العام 1835م بمبادرة من رجل الخير المنفق "يحظيه ولد الفاضل". تقول الرواية الشعبية التي يتداولها الوادانيون بأن الماء الذي كان يستجلب من الوادي قد نفد قبيل اكتمال بناء منارة المسجد، ونظرا لحرص المشيدين على إكمال بناء المسجد قبل وقت صلاة الجمعة، فقد اضطروا لخلط الطين بالدهن لإكمال بناء المنارة. 

حكاية مفاتيح

ستظل حكاية مفاتيح "الطالب عيدي" هي أفضل حكاية شعبية متداولة يمكن من خلالها إعطاء صورة عن مدى العمران الكبير الذي عرفته مدينة وادان في فترة من فترات تاريخها. يقول الوادانيون في إحدى حكاياتهم الشعبية إن "الطالب عيدي" نسى في يوم من الأيام مفاتيح داره في الحقل، ولم يتذكر ذلك إلا بعد وصوله إلى منزله في المدينة، فما كان منه إلا أن طلب من مزارع بجوار المدينة أن يخبر المزارع الذي يليه، ليخبر ذلك المزارع بدوره المزارع الذي يليه، وهكذا، حتى وصل الطلب للمزارع الذي لديه المفاتيح، والذي كان على بعد 12 كيلومتر من المدينة، فما كان من المزارع الذي كانت لديه المفاتيح إلا أن سلم المفاتيح للمزارع الذي يليه، ليسلمها ذلك بدوره للمزارع الذي يليه، حتى وصلت المفاتيح إلى "الطالب عيدي" في منزله دون أن يتحرك من مكانه، ويعرف الطريق الذي سلكته المفاتيح بطريق "الطالب عيدي".

حكاية شارع الأربعين عالما

تعكس حكاية مفاتيح الطالب عبدي مستوى التطور العمراني الذي وصلت إليه مدينة وادان في فترة من فترات تاريخها، أما التطور الثقافي والعلمي الذي عرفته المدينة، والذي يعتبر هو ميزتها الأولى، فتعكسه الحكايات والمرويات التي تروى عن شارع الأربعين عالما، وتُجمع تلك الحكايات والمرويات على أنه كان يوجد في وادان أربعون منزلا متجاورا في كل منزل عالم على الأقل.

وكان بإمكان طالب العلم في وادان أن يتجول في المدينة وهو يتلو القرآن أو يقرأ بعض المتون، دون الحاجة إلى شيخ، وإذا ما واجه صعوبة أثناء تلاوته أو أثناء مراجعته لأحد المتون فما عليه إلا أن يقف عند باب أي منزل، وهناك سيجد من يقوم بمهمة الأستاذ ويصحح له. صخرتان وحكايتان تبقى الصخرة الأكثر شهرة في وادان هي تلك الصخرة التي يقول الوادانيون في حكاياتهم الشعبية بأنها قد أصبحت قبرا للعالم العابد "الطالب أحمد ولد اطوير الجنة"، وهو قبر ما زال قائما في وسط المدينة القديمة.

وتقول الروايات الشعبية إن "الطالب أحمد ولد اطوير الجنة" كان قد أوصى قبل موته بأن يُذهب بجنازته إلى صخرة معروفة في وادان، وأن يقال لتلك الصخرة : يا صخرة انشقي فقد جاءك "الطالب أحمد"، وتقول الروايات الشعبية بأن الصخرة انشقت، وأدخلت فيها جنازة "الطالب أحمد" لتنغلق بعد ذلك، وتعود كما كانت.

أما الصخرة الثانية فهي صخرة "الفاضل ولد أحمد امحمد"، أحد علماء ومنفقي وسادة مدينة وادان، وقد عُرف هذا السيد الرئيس بقوته البدنية، ويقول الوادانيون في إحدى رواياتهم بأن "الفاضل" قد أزاح تلك الصخرة الكبيرة التي تحمل اسمه حتى الآن، ليسهل على الوادانيين الوصول إلى البئر المحصنة، فقد كانت تغلق الطريق، وتقول رواية أخرى أنه كان قد جاء بها إلى المكان الذي توجد فيه الآن، وأنه كان يستخدمها لإغلاق المدينة ليلا، كنوع من الحراسة الليلية، ويزيحها في النهار لفتح  الطريق.حكاية البئر والسوريبدو أن تأمين مدينة وادان كان هو الشغل الشاغل لأهلها في تلك الفترة، وتذهب حكاية صخرة الفاظل في ذلك الاتجاه، كما تذهب أيضا حكاية البئر المحصنة وسور المدينة في نفس الاتجاه. تقول الحكاية أن سور المدينة تم تشييده بعد تأسيسها بأربع سنوات فقط، وقد أعطى هذا السور  شهرة كبيرة  للمدينة، على مر تاريخها، وللسور أربعة أبواب مشهورة، يقال إن كل باب منها كان يمكن أن يمر منه جمل يحمل هودجا، دون أن يلمس أي جزء من أجزاء السور العلوية أو الجانبية. ولقد حفر الوادانيون بئرا داخل السور لتأمين المدينة بالماء في حالة إغلاق السور عند التعرض لأي تهديد أمني خارجي. وتعرف هذه البئر الآن بالبئر المحصنة، ولها طريق سري يوصل إليها يمر من داخل ثلاث ديار أو منازل في المدينة القديمة. وعند البئر توجد أمكنة للحراسة أو ما يعرف بالرقابة الداخلية للبئر، وتوجد بعض الفتحات التي تمكن الحراس من مراقبة ما يجري خارج موقع البئر، كما أن تلك الفتحات كانت تستخدم لتصويب فوهات البنادق من خلالها. وكان من مهام الرقابة الداخلية - حسب الحكايات الشعبية المتداولة -  أن تشرف على تنظيم جلب الماء من البئر المحصنة في حالة إغلاق السور مع العدالة في توزيعه، حيث لم يكن يسمح لأي أسرة بأن تجلب الماء من البئر المحصنة، للمرة الثانية، قبل أن يأتيها الدور ، أي بعد أن يكون كل أهل المدينة قد أخذوا نصيبهم من الماء. وهناك أيضا دار للرقابة الخارجية، تراقب الخارجين والداخلين، وفي حالة الإغلاق المفاجئ للسور نظرا لأي طارئ، فإنه يكون بإمكان أهل الرقابة الخارجية أن يحددوا أسماء  كل الوادانيين الذين أغلق السور قبل عودتهم إلى المدينة.

حكاية المرأة والدار

اشتهر الوادانيون بالتعاون والتكافل، وفي الماضي كان يكفي لمن يريد بناء دار مثلا أن يعلن ذلك، ليجتمع الناس من حوله ويعينوه على بنائها. وقد يكون المال والجهد الذي يبذله مالك الدار لتشييدها، أقل مما ينفقه ويبذله بعض المتعاونين معه في بنائها. وتقول الحكايات الشعبية التي تختلف حول بعض الجزئيات إن امرأة غنية من أهل وادان، قررت أن تحفر بئرا أو تشيد دارا، فما كان من تلك المرأة إلا أن أجَّرت بعض العمال لإنجاز المهمة، وبعد اكتمال العمل قام رئيس وادان آنذاك باستدعاء السيدة المذكورة، وكان الرئيس في تلك الفترة هو "سيد أحمد الأطرش"، والذي لُقِّب بالأطرش لأنه ـ حسب الحكايات الشعبية ـ كانت له قدرة عجيبة في التفريق بين صاحب الشكوى الحقيقية، وصاحب الشكوى المزورة، فكان يتظاهر بالصمم لأصحاب الشكاوى المفبركة بلغة أهل هذا الزمان، فلقبوه بالأطرش.

وتقول الرواية الشعبية بأن "سيد أحمد الأطرش" قام بهدم المنزل حسب أصحاب الرواية الأولى، أو بردم البئر حسب أصحاب الرواية الثانية، وطلب من أهل وادان أن يحفروا للسيدة بئرا، أو يشيدوا لها دارا، وذلك بعد أن حذرها من العودة لمثل هذه التصرفات التي تمس من روح التكافل الذي عُرف به أهل وادان على مر العصور . 

حكاية الطبل والساحة

ساحة الرحبة هي ساحة فسيحة كانت تستخدم في الماضي لأغراض شتى، وتوجد بها حاليا صخرة يقال إنها كانت - وحسب الروايات الشعبية - تستخدم لقياس قوة الشاب الذي يريد أن يُعلن عن دخوله في مرحلة الرجولة. وعلى جانب من الرحبة توجد خشبة يقال إنها كانت تستخدم لإقامة الحدود، وبجنب تلك الخشبة يوجد مكان لخشبتين مثبتتين يقال إن طبل وادان كان يوضع بينهما، والطبل يوجد حاليا في دار "أهل شماد" المجاورة لساحة الرحبة.

وكان الطبل يستخدم لعدة أغراض، فكان يستخدم للأفراح، وكان يستخدم كصفارة إنذار، كما كان يستخدم أيضا للإعلان عن قدوم الضيوف.

ختامامن المؤكد أن أغلب هذه الحكايات ليست دقيقة في تفاصيلها، ولكنها مع ذلك تبقى حكايات تستحق أن تروى، فلكل مدينة تاريخية أساطرها، ولوادان بطبيعة الحال أساطيرها، ولها ذاكرتها التاريخية وما جمعت من حقيقة وخيال.من حق الوادانيين أن يفتخروا بما سطر عنهم التاريخ من حقائق مشرفة، ولهم أيضا أن يبالغوا في حكاياتهم الشعبية كما يبالغ أبناء المدن التاريخية في كل بلدان العالم، عندما يروون تاريخهم للأجيال المعاصرة.ــــــــ*

هذا المقال كنتُ قد نشرته بعد أول زيارة لي لمدينة وادان في العام 2012، وذلك للمشاركة في أول نسخة من مهرجان المدن القديمة تنظم في هذه المدينة.أعيد نشر المقال الآن قبيل انطلاق نسخة جديدة من المهرجان بالمدينة.محمد الأمين الفاضل