كثيرا ما نقرأ أو نسمع أو نشاهد بعض الآراء التي يحتج أصحابها على حديث مسؤول حكوميأو صياغة وثيقة رسمية بلغة أجنبية، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن مبررات استعمال هذه اللغة أو تلك في بعض نشاطات الحياة المعاصرة. ويوغل بعضهم في إسداء الدروس في مجال الاعتزاز باللغة الأم واللغات الوطنية الأخرى، إلى حد "التكفير الثقافي" لمن لا يشاطرهم آراءهم "الشوفينية". ف"لغة الضاد"مصانة صون القرآن العظيم الذي نزلت آياته بهذه اللغة على أفضل البشرية محمد بن عبد الله صلوات الله تعالى وسلامه عليه.
لقد أنتج العقل القحطاني والمستعرب على حد السواء موروثا ثقافيا هائلا في مجالات الأدب والفلسفة والفلك والرياضيات والهندسة المعمارية والكيمياء و شتى العلوم التطبيقية والحرف والفنون، ولعل أبسط دليل على غزارة هذا الموروث البصمات الواضحة التي تركتها اللغة العربية في معاجم اللغات اللاتينية مثل الإيطالية والفرنسية والإسبانية، بالإضافة إلى المصطلحات العلمية التي يعترف العالم كله بجذورها العربية. فالطفل الناطق بالإنجليزية يتعرف لأول مرة على الأعدادتحت التسمية : "Arabic figures"، أما الطفل الفرنسي فيتعلمها تحت العنوان: «Les chiffres arabes»، حيث تشكل كلمة «chiffre» تحريفا طفيفا لكلمة "صفر" العربية.
لقد انبهر الغرب الأوروبي بالصفرالأندلسي إلى حد أن الأعداد كلها أصبحت عندهم أصفارا !! ولا أحد يجهل أهمية "الصفر" في برمحة الحاسوب الآلي، حجر الزاوية في الثقافة الرقمية المعاصرة.
ولولا اهتمام العلماء العرب بها وترجمتها خلال العهد العباسي إلى "لغة الضاد"، لضاعت الفلسفة الإغريقية برمتها وإلى الأبد.
إن لغة بهذه المواصفات ليست بحاجة إلى أن ينتصر لها من لا يتقن غيرها ولا يتذوق سواها من اللغات الحية.
فالإلمام باللغات الأجنبية يشكل اليوم ضرورة موضوعية نظرا لتوحيد وسائط الاتصال وعولمة الاقتصاد والتكنولوجيا، كما يعزز التعلق باللغة الأم خاصة إذا كانت هذه الأخيرة قد أثرت ولا زالت تؤثر على اللغات الأخرى، بشكل يبعث على الفخر والاعتزاز... ف
لماذا يتباهى بعض مثقفي وسياسيي الغرب والشرق بإتقان "لغة الضاد" وتود "شرطة الأصولية اللغوية" عندنا أن نشعر بالخجل كلما كتبنا كلمة بلغة أجنبية أو نطقناها؟ فهل يمكن أن نتقن لغة دون قراءتها وكتابتها والتحدث بها ولي عنق قواعدها لا إراديا!؟وهل من الحكمة بالنسبة لأمة ابتليت بوهن علمي وتقني طوال القرون الست الماضية، أن تنصت لإيحاءات وإملاءات أعداء اللغات الأجنبية ودعاة التقوقع الثقافي والانطواء الفكري. فاللغة، أية لغة، تشكل، في المقام الأول، وسيطا مجردا للتعلم واكتساب الخبرات والمهارات. "من تعلم لغة قوم أمن مكرهم"، ألم يدع البعض أنه حديث شريف؟ ألا يشكل جهلنا بلغة الآخر وثقافته وعقليته السبب الرئيسي في نجاح مؤامرات "سايكس-بيكو" و"لورانص العرب" و"وعد بلفور" وقريبا منا "يمين طبرق"؟
هذه المؤامرات التي تفانت في دعمها تيارات "إسلاموية"ساذجة... إن من لا يجيد سوى لغته الأم، في العصر الحالي، يمكن اعتباره "نصف-أمي"، خطير على نفسه وعلى قومه، خاصة إذا تعلق الأمر بمواطن دولة متعددة الأعراق ضمن حيز جيو-سياسي معين...فالتعصب -دينيا كان أم لغويا- لا يولد إلا البؤس والتخلف والتطرف. فلنشجع أطفال موريتانيا على إتقان اللغة العربية والبولارية والسونينكية والولفية، بالإضافة إلى لغة "موليير"و"شكسبيير"و"فاسكيز-كارسيا" و"كونفيسيوس"و"الماهاتما"و"تولستوي" وغيرهم، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا... فإذا كان هناك مجال واحد يمكن للموريتانيين أن يتميزوا فيه عالميا ويبدعوا فهو إتقان اللغاتالحية الذي يفتح أبوابا تطبيقية ومهنية واسعة من خلال الترجمة والترجمة الفورية والحصول على المعلومات الاستراتيجية واستقطاب الاستثمارات النافعة والحضور الديبلوماسي الإيجابي.ولعل هذا ما حدا بفخامة الرئيس محمد ولد عبد العزيز إلى تأسيس معهد عال متخصص في اللغات الأكثر تداولا عالميا.
إن الزوبعة "الفنجانية" التي تعمل بعض أوساط الإعلام القبلي على تغذيتها اعتمادا على شائعات واهية، لا علاقة لها البتة بالدفاع عن اللغة العربية أو الدستور الموريتاني. فديناميكية الإصلاح والعصرنة التي يقودها فخامة الرئيس محمد ولد عبد العزيز أوشكت على القضاء على ثقافة الاستبداد والقمع التي كانت تعتمد مقاربات "تدجينية" موروثة عن عالم الاستخبارات وتستهدف الصحافة بغية تحويلها إلى "أبواق" لتنميق البعض والتشهير بالبعض وخلق واقع افتراضي لا يمت إلى الحقيقة بصلة، لا لشيء سوى الاستحواذ على مفاصل النفوذ الرسمية بغية النهب "الممنهج" للمال العام.
إن معالي الوزير الأول السيد يحيى ولد حدمين ووزراء حكومته لا يولون-على ما يبدو-أية أهمية ل"مؤامرات" من عزت عليه الشعبية والمصداقية الفكرية والسياسية، فهانت عليه "لغة الصراع" وامتطى "صراع اللغة"،جعجعة عقيمة لا تضر إلا"المدمنين" عليهاوالمؤمنين بفعاليتها. تسير وتسير، القافلة تسير...
سيدي ولد أحمد