يعرّف الفساد بأنه " إساءة استعمال الوظيفة العامة للكسب الخاص "أو"استغلال السلطة من أجل المنفعة الخاصة" ،وقد استشرى في هذا البلد حتى بات يهدد كيانه وينذر بتقويض بنية المجتمع ، وما الحراك الشرائحي وتردي المنظومة الأخلاقية إلا نتاج لهذه الظاهرة.
وعندما تقلد الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز السلطة انتهج سياسة مكافحة الفساد وعدم مسايرة بعض الجهات الانتهازية والمتمصلحة على الساحة السياسية والمالية والإدارية والاجتماعية ونتذكر جميعا كيف ذهب رجال أعمال بارزين في نزهة إما إلى السجن وإما إلى المنفى وكيف فتحت ملفات وكيف استعادت الخزينة العامة مبالغ هامة من جيوب رجال دولة أثاروا الأرض وعمروها وبنوا الدور والقصور.المرحلة الانتقالية التي كانت منزلة بين المنزلتين أو لنقل الربيع الموريتاني لم تسلم من صفقات الرشاوى والفساد (وود سايد وشنقيتل) .أما الأنظمة التي تعاقبت على السلطة قبل ذلك فقد استندت -عن قصد أو عن غير قصد - إلى نظرية (صموئيل هنتيغتون) الذي يرى أن الفساد الناتج عن المشاركة السياسية يساعد على دمج فئات جديدة في النظام السياسي !!!تلك هي المعضلة : كيف يتسنى القضاء على ظاهرة عامة متغلغلة في النظام السياسي والإداري في الدولة؟ وكيف ينقلب ساسة المجتمع على واقع يومي يتعايشون معه؟للإجابة على هذا الاشكال و سعيا من النظام الحالي للحد من هذه الظاهرة فقد قام بسن القوانين والتشريعات وتفعيل هيئات الرقابة والتفتيش ، لكن مراقبين كثيرين يرون أن مواقع النفوذ القبلية والسياسية مثلت حجر عثرة أمام تلك الجهود والسياسات وعادت بالتالي زمر الفساد إلى عادتها القديمة متلبسة ببعض القادمين الجدد ، بل جُرّد مسؤولون كبار من مناصبهم وعادوا إلى مراكز القرار بعد فترة نقاهة سياسية .لقد توصلت دراسة استقصائية إلى أن السنوات الأخيرة شهدت بناء ما يقارب 50 قصرا أو فيلا فقط في الأحياء الراقية لمدينة نواكشوط ناهيك عن شراء شقق سكنية في الخارج وذلك من طرف أطر سامين في الدولة من بينهم مدراء مؤسسات عمومية وأمناء عامون ووزراء تقدر قيمتها بمئات الملايين من الأوقية لم يخضع هؤلاء لمسائلة ولا تفتيش بل تلقوا التهاني والتبريكات ودخلوا قائمة الأبطال /المفسدين.أيتها العير إنكم لسارقون !عندما تصبح الديمقراطية رهينة للمتنفذين وأصحاب رؤوس الأموال وشيوخ القبائل وأبناء شيوخ القبائل فإنها تتحول إلى شراء للذمم واستغلال للفقراء والبسطاء وضعاف النفوس.توريث المناصب من مظاهر الفساد وهو شائع هنا :عائلات برمتها تتوارث المناصب السامية بل تتقاسمها في آن معا وعائلات أخرى تمتلأ بالكفاءات ويشقى أبناؤها للحصول على وظيفة.وهناك ظاهرة معكوسة قلبها نواب البرلمان وهي ظاهرة التسول البرلماني : عندما يستجدي النائب أو السناتير السلطة التنفيذية للحصول على منصب سامي أو لتنفيذ خدمات أو مشاريع عامة تخص النائب أو قاعدته الانتخابية فإن ذلك سيؤثر حتما على دوره كسلطة رقابية. وليس رجال القانون أفضل حالا فإنهم يمارسون التسول الحقوقي ويبيعون أنفسهم في سوق النخاسة السياسية ويتحولون إلى أبواق وأدوات بلبلة بيد سياسيين فاسدين .هنا الفقر والكرامة صنوان .هنا العادات أرسخ من قيمة المال .هنا الانسان لا يزال يستحق هذا الاسم ، تلك كلمات الصحفي اللبناني سامي كليب في رحلته إلى شنقيط عندما رفض صاحب الحانوت أن يأخذ منه ثمن الشاي. ما لا يعرفه ضيفنا الكريم هو فهمنا للدولة ونظرتنا للمال العام الذي يمارس نهبه هنا وإفساده كرياضة وطنية يشترك فيها الجميع ويتفرج عليها الجميع بل إن قبائل ومجموعات خرجت إلى الشارع ونصبت الخيام أمام السجون مطالبة بإطلاق سراح أبنائها المحتجزين بسبب الفساد. إن القضاء على هذه الظاهرة لن يتحقق عن طريق الأوامر والقرارات والتشريعات فحسب بل هو عملية اقناع واقتناع صعبة وعسيرة لابد أن يشارك فيها قادة الرأي والعلماء والمفكرون. كما يجب تعزيز مبدأ الشفافية والمراقبة بكشف الذمة المالية للمسؤولين السامين وذلك بمعرفة ممتلكات المسؤول قبل توليه منصبه ومراقبته أثناء عمله وتقييمه لمعرفة الزيادة التي طرأت على ممتلكاته هل هي طبيعية أم لا؟ وبالتالي منع سرقة أموال الدولة وتجريد كل مفسد وتقديمه للعدالة وحرمانه من تقلد أي منصب في المستقبل .ولابد من فك التشابك بين شبكات الفساد ومصالح الدولة بغرض إعادة بناء المجتمع وتفعيله وتقوية موقعه ليتجاوز التحولات العميقة التي يعيشها وليبقى متماسكا محصنا وفيا لقيمه الأصيلة التي هي سر بقائه.إن المقاربة التي تبناها الرئيس الحالي في تحييد الاشكال الأمني والتي انبنت على الصرامة والجدية وأتت أكلها يجب تبنيها في مسألة الفساد والمفسدين لأن الاشكال أخطر وأعمق بكثير.