أثناء انعقاد منتدى الجزيرة في مايو الماضي، ذهبت لأحد الفنادق الفاخرة بالدوحة لأقابل أحد أصدقائي المؤتمرين القادمين من جنوب إفريقيا. ما إن دخلت بهوَ الفندق حتى رأيت صاحبي خارجًا من معركة مع مسؤول المناوبة في الفندق. سألته عن القصة، فقال إنه طلب مقابلة المدير ليشكو له من أنه لم يقابل أي موظف في الفندق يتحدث اللغة العربية، ولم يتصل على هاتفهم في لحظة من ليل أو نهار إلا أجابه متحدثٌ بالإنكليزية، وأنه طلب أن يكون الشخص الساهر على خدمته عربي اللسان.
هدأت من روع صاحبي قائلًا له: هون عليك! إنك لا تتحدث إلا الإنكليزية ولغتك العربية ليست بذاك؛ فلماذا القلق؟
هنا، حول صاحبي شحنة احتجاجه تجاهي قائلًا: لكن أهل هذه الديار عرب ومن حق من لا يحسن منهم الإنكليزية أن يُحدّث بلغته. لقد رأيت سيدات كبيرات في السن من أهل هذه الديار يدخلن هنا وشعرت أنهن غريبات، وكاد قلبي يتفطر لحالهن! فلماذا يُدْفعْن لأضيق الطريق ويُحوجْن لمثل هذه الحال وهن في ديارهن، وأين؟ في جزيرة العرب!
أثناء حديث صاحبي تذكرت أن ثورته نابعة من البيئة التي جاء منها. إنه قادم من جنوب إفريقيا حيث تخلص الناس من عُقد النقص وتعلموا كيف يحترمون ذواتهم، واقتنعوا أن الطريق إلى التحرر يمر عبر احترام الذات أولًا.
فقد تعلم مواطنو جنوب إفريقيا من خلال عشرات الكتب المؤلفة في هذا المضمار، ومئات السنوات من الاحتكاك مع المحتل الأبيض أن شرط التحرر احترام الذات، وأن المنهزم لا يبني مجدًا.
ثم أمسكت بيد صاحبي وانحرفت به إلى مقهى الفندق قائلًا: لقد فسرتَ لي قصة زميليتي “اكزوليلوا مجكي”. (الحرف الأول من الاسم ينطق بصوت نادر يحدث عن ارتجاج اللسان في جانب الحلق مما يلي الأضراس، ولا يستطيعه إلا بعض قبائل جنوب القارة الإفريقية).
ففي عام 2009، جئت وزميلتي تلك من جنوب إفريقيا إلى الدوحة من أجل دورة تدريبة في شبكة الجزيرة. كنت يومها مراسلًا للقسم العربي، وكانت هي مراسلة للقسم الرياضي بالقناة الإنكليزية. ثم جاءت في إحدى الصباحات غضْبى تكاد تخرج من إهابها غيظًا كأنها ريح هوجاء وقالت: “تخيل أن المذيعين اقترحوا عليّ السماح لهم بنطق الحرف الأول من اسمي “زاءً” لأنهم عجزوا عن نطقه”. فقلت لها وماذا قلت لهم؟، فردتْ: “قلت لهم إنه اسمي… ينطق كما هو، فعليكم التعايش معه”.
استعذب صديقي قصة مواطنته، وزادني بنادرة وقعت له قبل سنوات في حي (أوكلاند بارك) بجوهانيزبيرغ، حيث يعيش.
قال إن أحد جيرانه ناداه طالبًا منه توقيع عريضة باسم الحي تتضمن شكوى من عمدة المنطقة. فوجيء صاحبي بمضمون الشكوى حيث إن اسم الشارع الذي في حيهم (beyers naude) هُجّي بطريقة خاطئة؛ إذ كتب دون حرف “آر”.
كان الرجل يتحدث عن ثورة حي من أحياء جوهانيزبيرغ بسبب خطأ في كتابة حرف واحد في اسم شارع، فيما كنت أتذكر عشرات الحالات التي شاهدت في هذه المدينة التي تكاد تكون من أفضل المدن العربية حالًا.
إذ توجد قرب بيتي مدرسة أجنبية نصبت أمامها لافتة لإرشاء الآباء لمكان التوقف لإنزال الطلاب، (drop off point). فيما كتب بالعربية “غلبه النعاس نقطة”، وفي مكان آخر “المدرسة يغلبه النعاس”. وأحسب أن اللوحة في مكانها لا يسأل عنها أحد ولا يحتج عليها آخر؛ لأن المهم ما كتب باللغة الإنكلزية وهو صحيح. أما الخطأ في العربية فليس خطأ البتة؛ لأن أهلها “يغلبهم النعاس” عن الاهتمام بالأمر.
خرجت من عند صديقي وأنا أفكر في ما كتبه ابن حزم في “الإحكام في أصول الأحكام” قبل ألف عام، عندما أنذر أن اللغة تضعف بضعف أهلها وتموت خواطرهم نتيجة الذل والهزيمة. يقول أبو محمد: “إن اللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم. فإنما يقيد لغةَ الأمة وعلومَها وأخبارَها قوةُ دولتها ونشاطُ أهلها وفراغُهم. وأما من تلفتْ دولتُهم وغلب عليهم عدوهم واشتغلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمةِ أعدائهم فمضمون منهم موت الخواطر، وربما كان ذلك سببًا لذهاب لغتهم ونسيان أنسابهم وأخبارهم وبيود علومهم. هذا موجود بالمشاهدة، ومعلوم بالعقل”.
رحم الله ابن حزم، وأجزل المثوبة لصديقي الجنوب إفريقيّ لغيرته على لغة أهملها قومها، وألهم العربَ الانتباهَ إلى أن الهزيمة الثقافة سابقة لأختها العسكرية.